حرب البسوس .. دامت أربعين سنة (3)—–الجزء الثالث
حرب البسوس .. دامت أربعين سنة (3)
ثم ارتحل الحارث مع قومه، حتى نزل مع جماعة بكر بن وائل، وعليهم يومئذ الحارث بن همام، فقال الحارث بن عباد له : إن القوم مستقلون قومك ، وذلك زادهم جرأة عليكم ، فقاتلهم بالنساء ، قال له الحارث بن همام : وكيف قتال النساء ؟ فقال : قلد كل امرأة إداوة من ماء ، وأعطها هراوة ، واجعل جمعهن من ورائكم ، فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً ، وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها ، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته ، وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته ، وأتت عليه.
فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها، استبسالاً للموت ، وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم ، وقال جحدر بن ضبيعة- وإنما سمي جحدراً لقصره – : لا تحلقوا رأسي ، فإني رجل قصير ، ولا تشينوني ، ولكن أشتريه منكم بأول فارس. يطلع عليكم من القوم، فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله.
واقتتل الفرسان قتالا شديداً ، وانهزمت بنو ثغلب ، ولحقت بالظعن بقية يومها وليلتها ، واتبعهم سرعان بكر بن وائل ، وتخلف الحارث بن عباد ، فقال لسعد بن مالك : أتراني ممن وضعته الحرب ! فقال : لا ، ولكن لا مخبأ لعطر بعد عروس.
وأسر الحارث مهلهلاً بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على المهلهل. قال: ولي دمي ؟ فقال: ولك دمك، قال: ولى ذمتك وذمة أبيك ؟ قال: نعم ، ذلك لك. قال المهلهل- وكان ذا رأي ومكيدة- : فأنا مهلهل خدعتك عن نفسي ، والحرب خدعة، فقال : كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء لبجير ، فقال : لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان ، هذاك علمه. فجز ناصيته وأطلقه ، وقصد امرئ القيس فشد عليه فقتله .
فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والوالدان يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه ،ثم إن مهلهلاً قال لقومه : قد رأيت أن تبقوا على قومكم ، فإنهم يحبون صلاحكم ، وقد أتت على حربكم أربعون سنة ، وما لمتكم على ما كان من طلبكم ، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها ، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ، ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ، ودموع لا ترفأ ، وأجساد لا تدفن ، وسيوف مشهورة ، ورماح مشرعة ، وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم ، وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا ، أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على الاستئصال ، وأنا سائر عنكم إلى اليمن.
ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه وساقوا إليه أدَماً في صداقها فأنكحها إياه ، وكان قد بلغ قبائل بكر وتغلب زواج سليمى في مذحج ، وكان بين القومين منافسة ونفور، فغضبوا وأنفوا، وقصدوا بلاد القوم فأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها بعد أن أسروا زوجها.
وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم ، وتركوا الفتنة ، ولم يحضر المهلهل صلحهم ، ثم اشتاق إلى أهله وقومه ، ولجت عليه ابنته سليمي بالمسير إلى الديار ، فأجابها إلى ذلك ، ورجع نحو قومه ، حتى قرب من قبر أخيه كليب ، وكانت عليه قبة رفيعة ، فلما رآه خنقته العبرة ، وكان تحت بغل نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً ، فوثب عنه المهلهل ، وضرب عرقوبيه بالسيف ، وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً ، وما وكده – أي قصده – إلا الحرب ، ولا يهم بصلح ، ولا يشرب خمراً ، ولا يلهو بلهو ، ولا يحل لأمته ، ولا يغتسل بماء ، حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.
فلما كان ذات يوم دخل عليه رجل من تغلب اسمه ربيعة بن الطفيل، وكان له نديماً، فلما رأى ما به قال : أقسمت عليك أيها الرجل لتغتسلن بالماء البارد ، ولتبلن ذوائبك بالطيب ! فقال المهلهل: هيهات ! هيهات ! يا بن الطفيل ، هبلتني إذا يميني ، وكيف باليمين التي آليت ! كلاً أو أقضي من بكر أربى ، ثم تأوه وزفر .
ونقض الصلح، وعادت الحرب، ثم إن المهلهل أغار غارة على بنى بكر، فظفر به عمرو بن مالك أحد بنى قيس بن ثعلبة، فأسره وأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر – وكان صديقاً للمهلهل- فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع شبان من قيس بن ثعلبة ونحروا عنده بكراً، وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له ، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه.
فلما سمع عوف ذلك غاظه وقال: لا جرم إن الله على نذراً، إن شرب عندي قطرة ماء ولا خمر حتى يورد الخضير – أي لا يشرب شيئاً قبل خمسة أيام -، فقال له أناس من قومه: بئس ما حلفت ! فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد ثلاث أيام، وكان المهلهل مات عطشاً.
ميزك ربي بالتقوي وحلاوه الايمان