كان الضابط مُحباً لخدمة موظفي المصنع من العسكر بشكل كبير و عن هذا تحدث أناس كُثر و اشتهر بذلك، فيُذكر عنه أنه بمُجرد انتساب عسكري أو ضابط جديد للمصنع يستقبله بمكتبه و يمنحه مسكناً بسيطاً بأحد العمائر السكنية التي يملكها حتى يتسر لهذا الموظف الجديد مسكن آخر، فقد كان وهبه الله قلب امتلأ بالرحمة و روح الأبوة للجميع.
قرار التقاعد**
جاء اليوم الذي تقرر فيه إحالة هذا الضابط الكبير مدير المصنع إلى التقاعد، و بالرغم من التعاطف الكبير معه إلا أن هذه ضرورة فهو خير للمُنشأة و للمُتقاعد أيضاً، لكنّ وقع الخبر على صاحب حكايتنا هذه كان مؤلماً جداً، فالمصنع و من يعمل به هل كل حياته و لعل هذا وصف بسيط لحالة الحب التي يعيشها.
على كل حال تقبل الأمر و تجرعه بطريقة أو بأخرى و اتجه لبيته بين عائلته التي علمت بالأمر و لم يبح سوى بعبارة مفادها أنه يُحس بألم في قلبه، تبينّ في اليوم التالي أنه ألم طبيعي جراء صدمة نلقي الخبر.
أمضى الرجل أسبوعه الأول يصحو صباحاً دون عمل أو منصب ينتظره و أصبح محروم من المكان الذي احتضنه كل صباح، و في كل يوم من أيامه كمُتقاعد يزداد الشوق للمصنع و العاملين به و يزداد معه الاحساس بالضيق و الكآبة.
رحلة للحرم**
طلب من أحد أبناءه مرافقته و السفر إلى الحرم المدني ليقضي بعض الأيام عسى أن يكون في رحلته هذه ترويح لنفسه المجروحة، و بالفعل اتجه و بمعيّته أكبر أبناءه إلى المدينة المنورة التي اشتهرت بأنها مدينة تبعث الطمأنينة في قلب زائرها و أهلها معروفون بطيبة القلب و الكرم الذي يعرفه القاصي قبل الداني، و بالفعل أمضى الضابط المُتقاعد أيامه الثلاثة ذهاباً و إياباً بين شقته التي استأجرها قريباً من الحرم المدني، و قضي معظم وقته في الحرم و يحضر صلواته الخمس و أحس بالسكينة و الهدوء تُحي روحه من جديد.
يقول ابنه في اليوم الثالث و بعد أن انتهينا من صلاة العصر جلسنا كعادتنا اليومية منذ أن وطئنا أرض الحرم نقرأ من المصحف على انفراد، كنا نحب الجلوس في تلك المساحة المكشوفة وسط الحرم المدني و التي تُظللها المظلات الكبيرة
كنت استمع لصوت والدي يتلو آيات القرآن على بعد مسافة مني و أحياناً يعلو صوت حمام الحرم عندما يطير و يهبط على صوته، و كنت في ثالث يوم أُحس أني سعيد و أحمد الله على ما آل اليه حالة والدي النفسية فلقد كان أفضل بكثير مما كان عليه فالطمأنينة بادية على مُحياه.
يقول ابنه بينما كنا كذلك نتلو من آيات المُصحف و إذ أرى والدي قد سجد فعرفت أنه قرأ آية يُسن عندها سجود التلاوة، يقول كنت أتلو كتاب الله و أنا أرمق والدي بنظرة خاطفة بين لحظة و أخرى بشكل طبيعي، و طال سجود والدي.
فقلت: الله يجزى والدي خير و يا ليته يخصني بدعوة، و كنت فرحاً بطول سجوده لأنه كلما أطال لا بد سيتذكرني و يخصني بدعوة .
لكن السجود استمر و طال زمنه عن المألوف
نهض الابن بتردد ليستوضح سر السجود الطويل
يقول ترددت في الاقتراب خوفاً من أُفسد عليه خشوعه
اقترب الابن
ثم اقترب أكثر … فأكثر عسى أن يسمع دندنات دعاء والده و يطمئن على أبيه.
لكن ما زاده اقترابه إلا خوفاً فلا صوت لأبيه يكاد أن يُسمع
نادى بصوت مرتجف: أبوي؟
رفع الصوت أكثر: أبوي؟ … دون أن يسمع أي ردّ
يُحدث الابن نفسه و يقول لعله لم يسمعني فزدت الصوت أكثر:
أبوي انت طيب؟
يقول اقتربت و أمسكت بكتف ابي الساجد لأهزه عسى أن يشعر بقلقي عليه فيقوم من سجوده رأفة بي.
هززته .. ثم هززته أكثر لأدفعه نحو جنبه الأيمن ثم انهار بنيان جسده الساجد، و تمدد جسمه الخاشع على بساط الصلاة بالحرم و ادركت بعدها أن: والدي قد فارق الحياة و هو ساجد
فارقها بعد أن تمكن من إحلال السكينة و الهدوء بنفسه.
فارقها هنا على أرض الحرم المدني و هو ساجد لربه سجدة التلاوة بدلاً من الموت على كرسي مكتبه لو استمر في عمله بدون تقاعد.
همسة
أنا هنا لست بواعظ و لكن بينما كتبت آخر سطر من الحكاية تساءلت هل سيُتاح لكل منا اختيار المكان كالمدينة المنورة و الحالة كالسجود كما هُيئ لبطل حكايتنا هذه، السر في العمل الصالح و حسن الخلق فهي مقدمات لخاتمة مرضية مريحة لكل نفس مهما كان دينها و لسانها.
الحكاية واقعية و ليست من نسج الخيال و لم أنقلها من واعظ همه ترقيق قلوب الناس بأي طريقة كانت، هذا الضابط هو أحد أقربائي رحمة الله و أسكن روحه فسيح الجنان
منقول
بالفعل هي قصة رائعة و فيها عبرة
ختم الله اعمارنا بخير اعمالنا يارب العالمين
ربنا كريم قووى اللهم احسن ختا منا اميين