أحكام وآداب الصّيام (3) فضائل صوم التطوّع
للشيخ الفاضل أبي جابر عبد الحليم توميات حفظه الله
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ الصّيام من أجلّ العبادات، وأعظم القربات، فلا جرم أنّه ثبتت له فضائل كثيرة، ثرّة وغزيرة، وآثرنا أن نجعل حديثنا عن فضائل الصّوم في بابين اثنين:
الأوّل: في بيان فضائل صوم التطوّع.
الثّاني: في بيان فضل صوم شهر رمضان المبارك خاصّة.
ولا بدّ أن نتذكّر أنّ كلّ ما ثبت لصوم التطوّع من الثّواب العظيم، والأجر
العميم، فإنّ لصوم رمضان أضعافَه المضاعفة بإذن الله؛ لقوله تبارك وتعالى في الحديث القدسيّ: (( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّاافْتَرَضْتُ عَلَيْهِ )) [رواه البخاري].
وإنّ كلّ ذلك لحرِيٌّ أن يدفع بالنّفس إلى الارتقاء في منازل الصّائمين، ويعلو في مراتب المتّقين، ورحم الله العلاّمة ابن رجب القائل:" من لم يعرِف ثواب الأعمال، ثقلت عليه في جميع الأحوال ".
الباب الأوّل: فضائل صومالتطوّع.
إنّ النّاظر في نصوص الكتاب والسنّة ليُدرك إدراكا تامّا منزلة صيام التطوّع، فكفَى به فضلا أنّه:
أ) بابعظيم للأجر والثّواب، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثِر.
ب)[COLOR="rgb(154, 205, 50)"] أنّ التطوّع طريق الولاية،
وفي تتمّة الحديث القدسيّ السّابق: (( وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَاأَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِيلَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ..)).ج) أنّ النّوافل سِياجٌ للفرائض.
فإنّ القائم على النّوافل يُؤدّي الفرائض من باب أولى، ومن ضعُف إيمانه فإنّه يترك ذلك المندوب الّذي حرَص عليه، ولا يترك الفريضة.
يقول الإمام الشّاطبيّ رحمه الله في " الموافقات " (1/141):" المندوب إذا اعتبرتَه اعتبارا أعمّ، وجدتَه خادما للواجب، لأنّهإمّا مقدّمة له، أو تذكار به … "اهـ.
د)[COLOR="rgb(154, 205, 50)"] أنّها تجبُرُ النّقص، وتسدّ الخلل في الفرائض.
[/COLOR]
ولقد روى التّرمذي وأبو داود والنّسائي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول:
(( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ عزّ وجلّ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْالْفَرِيضَةِ ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ )).
وفضائل الصّوم لا تُحصى ولا تُعدّ، ولا يمكن أن يحوِيَها حدّ، منها:
1- الفضل الأوّل: أنّ أجر الصّوم غير محدود.
2- الفضل الثّاني: أنّ الصّوم جُنّة.
3- الفضل الثّالث: فضل خلوف الصّائم.
4- الفضل الرّابع: للصّائم فرحتان: فرحة في الدّنيا، وأعظم منها في الآخرة.
ويدلّ على هذه الفضائل الأربع ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليهوسلّم:
(( قَالَ اللَّهُعزّ وجلّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْفَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِأَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ )).
– أمّا أنّ أجر الصّوم غير محدود:
فلقوله عزّ وجلّ: ( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ) أي: له أجر محدود معلوم، ويشهد لهذا المعنى رواية مسلم: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُعزّ وجلّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي …)).
قوله: (( إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي )): هناك تفسيران لهذه الجملة:
الأوّل: قالوا: إلاّ الصّوم، فإنّ أجره غير محدّد بحساب، وقد فسّر كثير من السّلف قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْبِغَيْرِ حِسَابٍ} بالصّوم، لأنّه أعظم أبواب الصّبر.
الثّاني: قالوا: إنّه ما من عملٍ إلاّ وقد يكون للإنسان فيه حظّ لنفسه، إلاّ الصّوم، فإنّه لله تعالى، لا يتطرّق إلى صاحبه الرّياء.
[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]- أمّا أنّ الصّوم جُنّة:
[/COLOR]
فالجُنّة هي السِّتر والوقاية، ومنه "المِجنّ" للدّرع من الحديد يلبسه المقاتل؛ لأنّه يستره من ضربات السّيف.
فالصّوم ساتِر واقٍ من الوقوع في الشّهوات، ومن أهوال يوم القيامة، ومن دخول النّار.
*أمّا كونه يقِي العبدَ من الشّهوات: فلحديث الشّيخين عن ابنِ مسعُودٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُلَهُوِجَاءٌ )).
فشبّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الزّواج بالوِجَاء، وهو: الخِصاء؛ لأنّه يقطع الشّهوة.
وتأمّل قوله: ( فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ
)، ولم يقُل: الجوع؛ ليجمع بين سببين لكسر الشّهوة، أوّلهما: السّبب
الشّرعيّ وهو الصّوم المحصِّل للتّقوى، والسّبب الثّاني: هو المادّي، وهو
تقليل الطّعام.
قال ابن القيّم رحمه الله في "روضة المحبّين" (220):
" وقد أرشد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
الشّبابَ الّذين هم مَظِنّة العِشق إلى أنفع أدويتهم … فأرشدهم إلى
الدّواء الشّافي الّذي وُضِع لهذا الأمر، ثمّ نقلهم عنه عند العجز إلى
البدل، وهو: الصّوم؛ فإنّه يكسر شهوة النّفس، ويُضيّق عليها مجاري الشّهوة، فإنّ هذه الشهوة تَقْوَى بكثرة الغذاء وكيفيته،
فكمّية الغذاء وكيفيّته يزيدان في توليدِها، والصّوم يضيِّق عليها ذلك،
فيصير بمنزلة وجاء الفحل، وقلّ من أدمن الصّوم إلا وماتت شهوتُه أو ضعُفَت
جدّا.
والصّوم المشروع يُعَدِّلُها، واعتدالها حسنة بين سيّئتين، ووسط بين طرفين مذمومين، وهما: العُنّة والغُلْمَة الشّديدة المفرطة.
وكلاهما خارج عن الاعتدال، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور أوساطها …"اهـ.
* وأمّا كون الصّوم جُنّةً من أهوال يوم القيامة: فلما رواه البزّار بإسناد حسن – كما في "صحيح التّرغيب والتّرهيب" – عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم
بَعَثَ أَبَا مُوسَى عَلَى سَرِيَّةٍ فِي البَحْرِ، فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ قَدْ رَفَعُوا الشِّرَاعَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، إِذَا هَاتِفٌ
فَوْقَهُمْ يَهْتِفُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ ! قِفُواأُخْبِرْكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ !
فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَخْبِرْنَا إِنْ كُنْتَ مُخْبِراً.
قال: إِنَّ اللهَتبارك وتعالىقَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ أَعْطَشَ نَفْسَهُ لَهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ سَقَاهُ اللهُ يَوْمَ العَطَشِ ..
* وأمّا كونه جنّةً من دخول النّار: فلما رواه الإمام أحمد عن جابرٍ رضي الله عنهما عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّمَا الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ النَّارِ )).
وروى ابن خريمة في "صحيحه" عن عُثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ القِتَالِ )).
ذلك؛ لأنّ النّار قد حُفّت بالشّهوات، والصّوم جُنّة ووقاية من الشّهوات.
– أمّا كون خلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك:
فالخُلُوف: هو ما يخلفه الصّائم من رائحة لأجل خلوّ المعِدة.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ )، يؤكّده ما رواه التّرمذي عن الحارثِ الأشعريِّ رضي اللهعنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا، وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَاللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ )).
وإنّما شبّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الصّائم بصاحب المسك؛ لأنّ الصّائم هو من صامت جوارحه عن الآثام، فأقواله وأفعاله كلّها صالحة نافعة، فمن جالسَه انتفع بمجالسته.
ولمّا كان الصّائم يستر صومه عن الخلق، شبّهه بصاحب المسك الّذي يضع المسك في صُرّة يستره فيها.
– أمّا فرحة الصّائم: فقال صلّى الله عليه وسلّم عنها: (( لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ )).
قال أهل العلم: فرح الصّائم في الدّنيا نوعان:
أ) فرحٌ طبيعيّ مباح، وهو الفرح بزوال الجوع والعطش.
ب) فرح شرعيّ مستحبّ، حيث إنّ الله تعالى وفّقه لأتمام صومه، وأعانه على التقرّب إليه.
ثمّ قال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ )): وذلك يوم الحساب، لما يراه من فضائل الصّوم يوم القيامة، ويعايِن صِدق قوله عزّ وجلّ:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وتتمّة الحديث عن فضائل الصّوم نراها لاحقا إن شاء الله.
إلى لقاء آخر بإذن الله
[/COLOR]وزادكِ علماً ونفعاً
ونور الله دربكِ بالتقوى
تقبلي ودي ومروري
ونحن بانتظار باقي الفوائد
التي نجنيها من الصيام
اللهم تقبل منا الصيام والقيام
وسائر الأعمال
وثبتنا على الحق يارب العالمين
جزاك الله خيرا على انتقائك الهادف
لاعدمناك