الحمد لله بديع السموات والأرض، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهو على كل شيء قدير، رفع من شأن بعض الأزمنة على بعض، وفاوت فيما بينها للحصول على الخير والثواب والأجر، واقتضت إرادته وحكمته جل شأنه تكريم النوع البشري لحكمة أرادها الله جل وعلا، وسخر الكائنات له، وجعله خليفة في الأرض ليعمرها بطاعته، وميزه بالعقل، وطلب منه التدبر في ملكوت السماوات والأرض ليهتدي إلى خالق الكائنات، الرزاق الذي يُطعِم ولا يطعم، وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع البصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن الله فرض علينا -معشر المسلمين- صيام شهر رمضان لحكم بالغة نعرف منها ما نعرف، ونجهل منها ما نجهل، فعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع العطش والحرمان طيلة النهار في شهر رمضان المبارك، لنحقق بذلك الهدف الذي فرض علينا الصيام من أجله في تلك العبادة السنوية، قال الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
عباد الله، إن من بعض أسرار فرض الصيام علينا أن نتحرّر من سلطان الغريزة، ونتغلب على نزعة الشهوات، فننطلق من سجن الجسد حتى نسمو بروحنا البشرية إلى حيث أراد الله جل وعلا لنا رحمة ومغفرة واستجابة دعاء ومضاعفة الحسنات ومحو السيئات.
ومن أسرار الصوم تقوية الإرادة بالصبر، فالصائم يجوع وأمامه أشهى الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الشراب والماء، ويعفّ وبجانبه زوجته بلا رقيب عليه إلا الله تعالى، وهكذا يكون إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان المؤقت لنيل المثوبة والأجر والغفران.
ومن حكم الصوم أيضًا أنه يعرف المرء مقدار نعم الله تعالى عليه، لأن الإنسان إذا تكررت عليه النعم قلّ شعوره بها، ولذلك قيل: وبضدها تتميز الأشياء، وبمعرفة هذه النعم نشعر بجوع الجائعين وبؤس البائسين الذين لا يجدون ما يسدون به جوعة بطون صغارهم.
وفي الصوم ـ
قبل كل هذا ـ تحقيق كمال العبودية لرب الخلق أجمعين وحده لا شريك له، وهذه الحكمة السامية عامل مشترك في كل العبادات، وهي الهدف الأسمى من خلق الإنسان كما قال الله جل ذكره: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
ومظهر العبودية في الصوم يظهر جليًا باستسلام المرء لأمر الله، فهو يجوع ويظمأ ويمتنع عن زوجته والأسباب متوفرة أمامه لا يمنعه منها إلا حب الله والرغبة في رضاه، ولهذا نسب الله الصيام إليه، وتولى جزاء الصائمين جزاء يفوق العد والحصر، إذ لا يعلم قدر جزاء الصوم إلا الذي فرضه كما يروي رسول الله عن ربه تعالى، فقال في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به))[1] وفي رواية أخرى ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، فالصيام لي، وأنا أجزي به))[2].
ذلكم -يا عباد الله- هو الصوم في الإسلام، لم يشرعه الله تعذيبًا للبشر ولا انتقامًا، بل كيف يكون ذلك وقد ختَم جل شأنه آية الصوم بقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] وحقيقة الصيام رحمة بالعباد ولطف بهم وعدل فيهم.
فيا عباد الله، تلكم بعض من حِكم الصيام، ينبغي علينا أن نرعاها حقّ رعايتها، وأن نضعها نصب أعيننا في صومنا؛ حتى يكون صومًا يحقّق مراد الله ويفي بالغرض المقصود منه، وهو الشعور والإحساس بالخوف والوجل من الله تعالى كما قال الله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (2/226)، ومسلم في الصيام، باب: جامع الصيام (1151).
[2] رواه مالك في الصيام، باب: جامع الصيام (1/310).
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفضل على عباده بالنعم والخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن من أعظم المصائب على الإنسان تضييع أوقاته في معصية الله تعالى في أيام وليالي شهر رمضان، وأن تفوت أوقاته فتذهب بلا فائدة، لأن ضياع الوقت لا يوازيه شيء آخر مهما كان، فكل شيء يمكن تعويضه بالنصيحة والرشد والدلالة والحيلة إلا الوقت، فإذا ذهبت ساعة من العمر دون أن يكتسب الإنسان فيها فائدة فإنه لا يتمكن من استردادها مهما حاول، ولو بذل من أجل ذلك كل التضحيات، ومن أجل هذا قال معلم البشرية وقائدها: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))[1]
وقال أيضًا: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع))، وذكر منها: ((عن عمره: فيم أفناه؟))، وفي رواية أخرى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس))، وذكر منها: ((عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟)).
فيا عباد الله، هذا شهر رمضان قد أخذ في الرحيل والنقصان فانتصف، فمن منكم حاسب نفسه وأنصف؟!
من منكم أعد الجواب غدًا للموقف؟!
فبادروا -رحمكم الله- إلى اغتنام هذا الباقي من الوقت الثمين بالتقرب إلى المولى الكريم بصالح الأعمال وتلاوة القرآن وأداء الفرائض وملازمة السنن والإخلاص لله في القول والعمل، حتى إذا ما جاءت لحظة الرحيل كنا على خير حال والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا.
[1] أخرجه الحاكم عنهما (4/306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الجامع (1088).
الشيخ داود بن أحمد العلواني
بارك الله فيك أختي وجزاك الجنة … نورالله قلبك بذكره
ورزقك حبه وأعانك على طاعته
وأكرمك بجنته وبصحبة النبي محمد صلّّ الله عليه وسلم
بارك الله بكِ
وجزاكِ عنا خير الجزاء
وأسأل الله لكِ أن يلبسكِ العافيه حتي تهنئي بالمعيشة
وأن يختم لكِ بالمغفرة حتي لا تضركِ الذنوب
وأن يكفيكِ كل هول دون الجنة
دمـتِ برعـاية الله وحفـظه