القرآنُ الكريم يؤدّي الفكرةَ ويوضحها كاملةً من جميع نواحيها من دون تكلّف وتقعُّر ، فهو سهلٌ في نظمه وأسلوبِهِ ، ممتنعٌ في محاكاتِه ومجاراتِه ، يحيطُ بالمعنى إحاطةَ السوار بالمعصم ، بدقةٍ متناهيةٍ ، وأسلوبٍ شيّق أخّاذ .
اقرأ معي قولَه – سبحانه – يحكي دعاءَ سيدنا إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – ربَّه أن يرغب الناس في بيت الله الحرام ، ويُعَطِّف قلوبَهم على أهله : ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْوَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ ( إبراهيم :37 ) .
تأمل – أيُّها القارئ – كلمةَ « تهوي » مضارع « هَوَى » ، وفكِّر في أن تجعلَ مكانها كلمةً أخرى تُؤَدِّي دورها ، ككلمة « تمـيل » أو « تحبّ » أو غيرهما ، فإنّك لا تجـدُ ؛ لأنّ لفـظةَ « تهوي » خفيفةٌ في نطقها ، لطيفـةٌ في جرسها ، عذبةٌ على السمع ، وأما المضمون فهي تفيدُ معنى الانجذاب ، وتوحي بمعنى السرعة والشوق مع التجدد ، فهي كالحجر المنحدر المسرع في سقوطه منجذباً نحو الأرض ، كقول امرئ القيس :
كجُلمودِ صخرٍ حَطَّهُ السَّيلُ من علِ
وجاء لفظ « الأفئدة » لإرادة أن يكون مسيرُ الناس إلى ذريته عن شوق ومحبة ، حتى كأنّ المسرعَ هو الفؤادُ لا الجسد ، فلما ذكر « الأفئدة » حسـن بيانه بأنهم من الناس ، و « مِن » بيانية ، والمعنى فاجعلْ أناساً يقصدونهم بحبّات القلوب .
وهذا هو المعنى الذي يَحُسُّهُ مَنْ أكرمه الله – عز وجل – وشرَّفه بأن تطأ قدماه تلك الأماكنَ الطاهرة ، وتنظرَ عيناه إلى أماكن نزول الوحي ، وتكتحلَ أجفانُه بالنظر إلى بيت الله الحرام ، وهو يتيه جمالاً ودلالاً .
هذا هو المعنى الذي يفهمه من شرّفه الله – تعالى – ببيته العتيق مناجياً ضارعاً ، أوّاباً خاشعاً لله ربِّ العالمين ، فهو طائرُ الفؤاد ، وقد غلبه الشوق ، ولا يحيط بشعوره وإحساسه عبارة ، ولا يمكن أن تُصوِّر غمرتَه كلمةٌ كما تصوره كلمةُ « تهوِي إليهم » .
فما أعظمَ التأملَ في آيات الله ! وما أحسنَ العيشَ في رحاب كتاب الله !
جعلني الله وإياكم ممن نذروا أوقاتهم لفهم كتابه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
[IMG]http://abeermahmoud2006.***********/529-Yamoqaleba.gif[/IMG]
م/ ن للفائده
م/ موقع ق