قال الله تعالى : ﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [الإسراء : 9].
وقال تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر : 29- 30].
أيها الإخوات الكريمات :
إن القرآن منبع النور والهدى والإيمان ، ومصدر العزة والشرف والرفعة للإنسان ، قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضعُ به آخرين) ([1]) ، إنه نورٌ ، وأيّ نور!! أطفأ الظلمة وأنار الوجود ، وسحق الضلالة وأقام الهداية .
إن من حقوق هذا القرآن العظيم علينا تلاوته وتدبّره والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه ، وما تقرّب عبد إلى الله بأعظم من تلاوة القرآن فإنها أعظم الذكر وأفضله وأحسنه ، ولن يُذكرَ باللهُُ بأفضل من كلامه وخطابه .
وقراءة القرآن مطلوبة ومرغوبة في كل وقت وحين ، ففيها عظيم الأجر وكبير الفضل وجزيل النوال ، وفي رمضان يعظم تأكدها ويزداد نفعها وخيرها وبركتها ، فخليقٌ بالصائمين أن يجعلوا جلّ وقتهم مع كتاب ربهم فإنه روضتهم وبستانهم وأُنسهم وسعادتهم .
القرآن في رمضان روضة الصائمين وحداء القائمين ولهج القانتين العابدين ، القرآن أعظم أنيس ونديم ، وخير جليس وسمير ، هو حلاوة وجمال ، وعزُّ وكمال . القرآن محض سعادة الإنسان ، ومُديم الخير والبركة والإحسان .
﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [ص : 29] .
يا صائمون :
هل ترومون روضة فيها أطايب النعم ونفائس المِنن ، وفيها ما لذّ وطاب وأغنى عن الأخلّة والأحباب ، إنها روضة القرآن غاية السعادة ومنتهى اللذة والسرور .
كلامٌ عظيمٌ تذرفُ منه العيون ، وتصدع القلوب وتقشعرُّ الجلود ﴿ ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ﴾ [ق : 1] ، إن من عظمته خشوع وتصدّع الجبال الصمّ لسماعه﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر : 21] .
يا صائمون :
القرآن عزُّكم وشرفُكم ، فاقرأوه حقَّ قراءته ، تغنموا وتسعدوا وتفوزوا بالثواب الكبير والنعيم المقيم ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء : 10] .
"القرآن الضياء والنور ، وبه النجاة من الغرور ، وفيه شفاء لما في الصدور ، ومَنْ خالفَه من الجبابرة قصمَهُ الله ، ومَنْ ابتغى الهُدى في غيره أضّلُه الله ، هو حبلُ اللهِ المتين ونوره المبين والعروة الوثُقَى والمعتصَم الأوفىَ ، وهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير لا تنقضي عجائبه ولا تتناهى غرائبه ، لا يحيط بفوائده عند أهل العلم تحديد ، ولا يخلُقُه عند أهل التلاوة كثرة الترديد ، هو الذي أرشدَ الأولين والآخرين ، ولما سمعه الجنّ لم يلبثوا أن ولّوا إلى قومهم مُنذرين﴿ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ﴾ [الجن : 1- 2] .
فكل مَنْ آمنَ به فقد وُفِّق ، ومَنْ قال به فقد صدق ، ومَنْ تمسّك به فقد هُديَ ، ومَنْ عمل به فقد فاز ، وقال تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر : 9] .
ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته والمواظبة على دراسته مع القيام بآدابه وشروطه والمحافظة على ما فيه من الأعمال العاجلة والآداب الطاهرة([2]).
يا صائمون :
إن هذا القرآن بلغ الغاية في الإعجاز والإتقان ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود : 1] ، لا يُدرَك وصفهُ وجماله ولا يُحاط بحُسنِه وكمالِه ، أذهلَ أهل البلاغة والبيان ، وبزَّ أهل الفصاحة والتبيان .
أيها الأخوات :
ألا تريدون أن تكونوا من أهل القرآن ، الذين هم أهل الله وخاصّته يحبّهم ويُدنيهم ويكلؤهم ويرعاهم ويصونهم ويحفظهم ويمنحهم فضله ويسبغ عليهم نِعَمَه ، أخرج النسائي في الكبرى وابن ماجة والحاكم من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ بإسناد حسن كما قال الحافظ العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أهل القرآن أهلُ الله خاصّتُه"([3]).
القرآن جالب اللذة والسرور ، وقاشع الوحشة والغموم ، له حلاوة لا تنتهي ، ولذاذة لا تنقضي ، مَنْ استرشدَ به رَشَد ، ومن استهدى به هُدي ، ومن استغنى به فهو الغنيّ الزكيّ الرّضيّ ، ملَك أجلّ نعمة وأعظم منحة وأنفَس ميراث .
به صلاح القلب وهداية النفس وزكاة العقل وسعادة الإنسان ، وفلاحه في الدنيا والآخرة ، إن هذا الكتاب به حياة كل شيء ، فلا حياة للإنسان بغير ذكر الله ، وأحب الذكر إلى الله تعالى كلامه وما نطَق به وخرج منه ، فلا تعجبوا إذ سمَاه تباركَ وتعالى "روحاً" يحيي به الموتى ، ويهدي به الحيارى ، ويبصِّر به أهل العَمى .
قال تعالى : ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى : 52].
يا مسلمون :
هذا كتاب عظيم جدّ عظيم ، ما أعظمه وأجلّه وأحسنه وأبهاهّ!! قد رفع الله تعالى قدره ومكانته بالثناء عليه والتنويه بشأنه وعلوّ قدره، قال تعالى : ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص : 1] ، أي ذي الشرف ، أي ذي الشأن والمكانة كما هو أحد أوجه تفسير الآية([4]).
وقال سبحانه وتعالى : ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف : 4] ، قال قتادة ـ رحمه الله ـ أي ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل([5]).