إنه مما تعارف عليه الناس الحكمة الشهيرة "ما لا يدرك كله لا يترك جله" أو "ما لا يدرك جله لا يدرك كله" أيًا كانت المقولة الأشهر فالمقولتان صحيحتان.. والمتتبع لديننا الحنيف يجد ذلك بوضوح، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" (فأتوا منه ما استطعتم) هكذا نبني حياتنا على ما نستطيع، على ألا نترك الأمر لأننا لا نستطيع إدراك كله أو جله، وهكذا هي حياتنا بالفعل إدراك ما يمكن إدراكه، والحديث عن الأمر الواقع يقودنا إلى مشكلة الدراسة والدعوة، وهي مشكلة دائمة وموجودة في كل البلاد، فكيف أدرس وأدعو إلى الله في وقت واحد، والدراسة تأخذ كل وقتي؟
إنه من الجميل أن أحمل همَّ الدعوة في قلبي، وهذا أمر يحمد لك يا أخي، ومن المفروض علينا أن نكون متفوقين في دراستنا، وهو ما أنت عليه بالفعل من كونك في إحدى كليات القمة، وبذلك تكون قد جمعت الخيرين؛ التفكير في الدعوة والتفوق في الدراسة، وتبقى نقطة أخيرة، كيف يكون التوفيق بينهما؟
اعلم أن تفوقك في دراستك هو في حد ذاته دعوة إلى الله، فالداعية المتفوق أدعى أن يسمع له الناس ويثقوا به ويعجبوا به. فلماذا لا يكون المسلمون هم الأوائل الذين يشار إليهم بالبنان؟
كما لا تنسَ أن تعاملك مع زملائك وسلوكك داخل كليتك هو أيضا دعوة إلى الله فهو كما يقال دعوة بالحال قبل المقال. فلنكن كما كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وقبل أن يمارس الدعوة إلى الله، فقد كان مشهورا بالصادق الأمين وهو ما أهله لأن يكون أهل ثقة وكلامه ذو مصداقية. ومثل يوسف الصديق عليه السلام حينما كان في السجن وجاءه رجلان يستفتيانه في أمرهما ووضحا سبب اختيارهما له دون غيره، في قوله تعالى "إنا نراك من المحسنين" فكان ذلك بداية ممهدة لدعوتهم لعبادة الله الواحد.
أود أن أذكرك بلفتة لطيفة ذكرها بعض المفسرين للقرآن الكريم عند حديثهم عن قصة السيدة مريم في سورة مريم، عندما حانت لحظة ولادتها لعيسى عليه السلام، عندما أمرها ربنا أن تهز جذع النخلة ليتساقط الرطب عليها، ".. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا، وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا، فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إنِّي نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا"
الشاهد هنا هو أمر الله للسيدة مريم أن تهز جذع النخلة، وتعالَ معي لنرى المشهد مصورًا: امرأة حامل –والحمل يجعلها ضعيفة-، في ساعة الولادة –والولادة تزيدها ضعفًا على ضعف-، جائعة -وهذا ضعف ثالث يضاف-، يائسة –ضعف رابع-، يطلب منها الله -سبحانه وتعالى الخالق الصمد الذي لا يحتاج إلى أحد وإنما أمره كن فيكون-، أن تهز جذع النخلة -الشديد القوي الذي لو هزه الرجل القوي فبالكاد يسقط بضع ثمرات، فكيف بالمرأة المتراكمة عليها أسباب الضعف؟-، رغم كل ما سبق فقد طلب منها الله –غير المحتاج لذلك سبحانه- أن تهز جذع النخلة كي ينزل عليها "الرطب الجنيّ"، لأنه سبحانه يريد منها أن تبذل ما تستطيع، والباقي عليه سبحانه، بشرط أن تبذل هي ما تستطيع.
إذن فعليك أن تقوم بما تستطيع ، واترك الباقي على الله سبحانه وتعالى، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ولكن سدِّدوا وقارِبوا" ، فسدّدْ وقارِبْ، واعلم أنه متى ما تيقن الله من استنفاذك كل طاقتك فسترى ثمرات جهدك تتساقط عليك رطبًا جنيًا، فتقر عينك، ويهدأ بالك.
أما كيف تقوم بما تستطيع؟ فالأمر ببساطة يكون بعقد النية، وتنظيم الوقت، وترتيب الأولويات.
عقد النية على التفوق في الدراسة وعلى الدعوة إلى الله.
تنظيم الوقت بتحديد ما يكفي من ساعات يومية للدراسة، وعدم ترك عمل اليوم للغد، ثم إيجاد ولو القليل من الوقت للعمل والدعوة.
ترتيب الأولويات بأن تنظر في حياتك وترتب أولوياتها حسب ما أقررته من قواعد سابقة تعيش بها، ولا تنسَ أن أمامك صيفًا طويلاً تكون فيه الدعوة هي شاغلك الأول، كما كانت الدراسة شاغلك الأول أغلب الشتاء، فتكون الأولوية الأولى في الصيف للدعوة، وأما في الدراسة فالأولوية للدراسة والاجتهاد، ولا تنس نصيبك من الدعوة خلالها، وثق نهاية أن الله سيبارك في وقتك، متى ما تحقق منك حق البذل والعطاء، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين".
فاعقد النية، ونظِّم الوقت، ورتب الأولويات.. و"هزَّ النخلة"، لتنال هداية السبيل و"الرطب الجنيّ".
اتفقنا؟؟ في انتظار إجابتك بـ" نعم".
الدكتور كمال المصري
**التوفيق بين الدعوة والدراسة والقياس في ذلك على كل شيء.
**الرجاء الدعوة لشباب وفتيات الأمة بالهداية والصلاح والبركة في استغلال الوقت فيما يرضيه سبحانه وتعالى.
بارك الله لكن في حياتكن واحبابكن وذريتكن ووقتكن وجهدكن وطاعاتكن وذاكرتكن وجعل كل عمل نفعله حتى اللقمة نأكلها او النومة ننامها نتقوى بها على الطاعات في سبيله سبحانه.
وفقكن الله دوما وابدا وسدد الله خطانا وخطاكن.. ورزقنا الله الاخلاص في العمل.
دمتن بود
مشكورة حبيبتي بارك الله فيكي
جزاك الله خيرا