أصبحتْ عادة وديدن كثير من الأسر العربية – بما فيها الخليجية، الأعلى دخلاً على مستوى الدول العربية – أن تقترض لإكمال المصروفات المنزلية والأسرية، ما بين يومي الخامس عشر والعشرين من كل شهر.
وتتعدد صور الاقتراض، سواء بسيولة نقدية من أحد الأقرباء أو الأصدقاء، أم بسلفة نقدية من محل العمل، أم بتقسيط المشتريات، حتى التموينية من التموينات أو البقالات على حساب الراتب الجديد.
ولتدبير سيولة كبيرة؛ فقد يلجأ البعض لإجراء عملية التورق، وهي شراء سلعة بالأجَل، وربما بالاستعانة بأحد المصارف، ثم يبيعها المشتري نقدًا لغير البائع بأقل مما اشتراها به؛ ليحصل بذلك على النقد، وتعرف هذه العملية سوقيًّا بـ"حرق السلع"، بصرف النظر عن الموقف الفقهي منها.
لقد بات الدخل الشهري يحتاج إلى إدارة واعية وحازمة، وبتعاون جميع أفراد الأسرة؛ بحيث لا تتورط الأسرة في ديون لا قِبَل لها، وربما أوردتْها المهالك؛ أبسطها أن يعيش ربُّ الأسرة مطاردًا من الدائنين، وأقساها أن يحلَّ ضيفًا غيرَ مرغوب فيه في أحد السجون، أو دور الحجز والتوقيف.
أولاً: أداء حق الله في المال:
أول خطوة ينبغي أن يقوم بها ربُّ الأسرة مع دخله: أن يؤدِّيَ حقَّ الله الواجب في ماله، متى استحق، وفقًا لموجباته الشرعية، فما شرعت حقوق الله هذه في المال إلاَّ تزكيةً وتنمية له؛ قال – تعالى -: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، وجاء في الحديث: ((ما نقص مالُ عبدٍ مِن صدقة))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني.
ومَن جعل في ماله صدقة، إلا كان في نماء وبركة وإخلاف؛ لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من يوم يُصبح العباد فيه، إلا ملكانِ ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا))؛ رواه البخاري ومسلم.
فحبَّذا لو استقطعتَ من راتبكَ أيَّ نسبة، تجعلها لأقاربك المحتاجين، أو أحد الجمعيات الخيرية، أو المشاركة في أحد المشروعات الوقفية، فستجد ذلك بركة وزيادة في دخلك من حيث لا تحتسب، وسيكون للصدقة – بمشيئة الله تعالى – دور في تجنيبك كثيرًا من البلاء والمصائب، والأموال التي تحتاجها لعلاجها أو مداواتها.
ثانيًا: أداء حقوق العباد والديون:
بادرْ ما أمكنك بسداد ما عليك من ديون وحقوق للعباد، إياك أن تماطل في سدادها وأنت قادر ميسور، وإياك أن تأخذ دَينًا لا تنوي سدادَه، فضلاً عن أن تأكل أموال الناس بالباطل؛ لقول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه، ومَن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله))؛ "صحيح البخاري".
ولقد استعاذ الرسول – صلى الله عليه وسلم – مِن "غلبة الدَّين، وقهر الرجال"، فاحرص أن تفرَّ مِن الدَّين فرارك مِن الأسد، اجلس مع نفسك واحسب ديونك، واكتبها في سجل خاص، وكلما توفر عندك مبلغٌ، سدِّد ما استطعت من دَينك ولا تؤخره.
ثالثًا: الادخار ولو جزءًا يسيرًا من الدخل:
لا تتعوَّد أن تُنفق دخلك الشهري بالكامل، واجتهد أن تدخر نسبة – مهما كانت ضئيلة – للطوارئ، أو محاولة لتكوين رأسمال يمكِّنك من القيام بمشروع اقتصادي، واستثمار هذا الفائض أو المال المدخَر، سواء كنتَ شريكًا متضامنًا، تشارك بمالك وجهدك، أم شريكًا موصيًا، تشارك بمالك دون الإدارة لأعمال الشركة.
وقد حثَّ النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – على أن يحاول المرء الاستغناء عن الآخرين، ولا يُلجِئ نفسه أو أهله وذويه لسؤال الناس، وهو القائل لسعد بن خولة – رضي الله عنه -: ((إنك أنْ تذر ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِن أن تذرهم عالة يتكففون الناس))؛ "صحيح مسلم".
رابعًا: تنظيم المشتريات والمصروفات:
لا تتبع شهوة الشراء في نفسك؛ لأن النفس البشرية كالطفل؛ إن رغبتَ في شيء، تريد الحصول عليه آنيًّا، ولكن عوِّد نفسَك حسابَ المنافع والمضار عند كل عملية شراء، وقد ورد أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال لجابر لما رأى معه لحمًا: ما هذا يا جابر؟ فقال جابر: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: أَوَكلما اشتهيتَ اشتريتَ؟! لذا تريَّثْ وخذ قسطًا من الوقت قبل الشراء، فربما تزهد بعد قليل فيما نويت شراءه، وقلَّت في نظرك منافعُه.
دائمًا ضعْ قائمةً باحتياجاتك الشهرية، والسنوية، والموسمية، ورتِّب هذه القائمة ترتيبًا تنازليًّا من الضرورات، إلى الكماليات، إلى التحسينات، وضع جدولاً زمنيًّا لتحقيق وتوفير كل احتياج في حالة سماح ميزانيتك الخاصة، مع مراعاة المواد السابقة.
ومن الأمور التي بُلِيَ بها الناس في هذا العصر:
أنْ أصبحت الأسواق هي متنزهاتِ الأفراد والأسر، وتجدهم أَسرى للعروض والتخفيضات التي تجذبهم بها الشركاتُ المنتجة أو المسوقة لبضائعها، ودائمًا ما يشتري الإنسان ما لا يحتاج ويخزنه، حتى يفسد لديه؛ لذا لا تدخل السوق إلا بقائمة مشتريات قد أعددتَها باحتياجاتك الفعلية، وتجنب في ذلك كله الاستهلاك المترف.
خامسًا: تجنَّب الاستدانة والتقسيط:
لا تشتري شيئًا إلا ملكت السيولة الكاملة لشرائه، ابتعد عن مزلق التقسيط ما أمكنك ذلك، ولا يغرَّك أن التقسيط مباح شرعًا، فلا تعني الإباحة التورُّطَ فيما لا قِبَل لك بسداده، وفي حالة لجوئك لقرض حسن، رتِّب سدادك له مسبقًا، ولا تلجأ إليه إلا لضرورة، وأنت تعرف في نفس الوقت مصادرك لسداده.
وإياك وأن تفتي نفسك أو تسمع لفتوى تبيح لك القروض الرِّبوية؛ فإن الربا أهلك الحرثَ والنسل، وها هي الأزمة المالية العالمية من جراء الربا، قد أتت على الأخضر واليابس، وباتت الدول – وليس المؤسسات والأفراد فحسب – تعلن إفلاسها.
وكم من تاجر كانت تجارتُه رائجةً، وأرباحُه عاليةً، وحينما مدَّ يده للقروض الربوية، بارت تجارته، وانهارت أسهمه، وتثاقل دَينه، وأصبح بعد عز ذليلاً.
سادسًا: تنظيم المصروف الشخصي للزوجة والأبناء:
من الجميل أن ترصد لزوجتك مصروفًا شخصيًّا، بنسبة معينة مِن دخلك، بحيث لا تجور عليها، ولا تجور على باقي مواد نفقاتك، ولعل الآية الحاكمة في هذا الشأن: ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7].
لكن من المزالق التي تقع فيها الأسرة: عدم مراعاة الزوجة لميزانية رب البيت، وتلاحقه بالطلبات، وغالبًا ما تكون في مجال التحسينات لا الضرورات، ولا حتى الكماليات، حتى لجأ البعض إلى الحرام، مِن تقبُّل الرشاوى في أعمالهم؛ تلبية لاحتياجات الأسرة، أو هكذا يبررون لأنفسهم؛ لذلك من المناسب تحديد هذا المصروف الشخصي، والاتفاق بين الزوجين على عدم تجاوزه على الإطلاق؛ لكي لا تثقل الأسرة بنفقات لا تطيقها.
أيضًا من الأهمية بمكان استخدام المصروف الشخصي المرصود للأبناء في تعويدهم وتدريبهم: كيف يديرون طلباتِهم واحتياجاتهم الشخصية؟ وتعويدهم الادخار من هذا المصروف، وليس من التربية ولا الحنان في شيء أن تنساق وراء شهواتهم في امتلاك الأشياء، والإفراط في المشتريات، والاستهلاك المترف، فبذلك نكون قد وضعنا أقدامهم على طريق السفه والتبذير، وصدق الله:﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 26 – 27].
المصدر