تخطى إلى المحتوى
الرئيسية

2024.

(حقيقة الرحلة إلى الله) .

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نسأله ـ سبحانه وتعالى ـ بمنّه وكرمه أن يجعلنا مباركين أينما
سيكون لقاؤنا ـ إن شاء الله ـ عنوانه:

(حقيقة الرحلة إلى الله) .

وهذا العنوان قُصد به تذكير أنفسنا أننا رُحّال، نرتحل من حال إلى حال، ونركب في رحلتنا هذه أعمارنا، نرتحل متوجّهين إلى ربّنا راجين رحمته ونحن نخشى عذابه ـ نسأل الله ـ غزّ وجل ـ أن نكون حقًا ممن رجا الرحمة وخشي العذاب.

وهذه الكلمات أرجو أن تكون تذكيرًا لنا بحقيقة ما علينا بهذه الرحلة، فمهما وصفنا الرحلة إلى الله لن نعطي الأمر حقّه إلا أننا نعتمد قوله {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .

نبدأ بتذكير أنفسنا قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} هذا اليوم العظيم يوم التنادي يوم الحساب والحشر، سُمّي هذا اليوم بيوم التناد؛ لأن الخلق يتنادون، فمِن مُستشفع، ومِن مُتضرّع، ومِن مُوبّخ، ومِن مُعتذر، ومِن مُعلن بالطاعة، ومِن مُهنِّئ ومُسلِّم، يناديهم ربّهم وينادي بعضهم بعضًا.

لكن في ذلك اليوم تختلف النداءات حسب ما كنت تنادي هنا في الدنيا ! من تنادي هنا ومن تسأل؟ وتنادي وتسأل من أجل من؟!

ولذلك يقول تعالى في سورة فُصِّلت: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} هذا النداء منه سبحانه وتعالى لهم، يناديهم ـ سبحانه وتعالى ـ يسألهم: أين شركائي الذي تعلّقتم بهم واعتنيتم بهم والتفتت قلوبكم لندائهم؟! أين هؤلاء الذين وقع في قلوبكم التعلق بهم ؟!

فتصوّر هذا اليوم واذكره لا تنساه .

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ}: يوجد محذوف وهذا أمر شائع في القرآن، (واذكر يوم يناديهم)، معناه ابْقَ ذاكراً كيف أنّ الرب ينادي خلقه ويسألكم: من كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم فتعلقت به قلوبكم، أين هم؟! فما لهم من جواب إلا أن يقولوا {آذَنَّاكَ} أي نُخبرك نُعلنك أننا على يقين أن لا أحد ينفع، {ما منا من شفيع}، ما أحد يرى الذين كنا ندعوهم شركاء لك يا ربنا! لا نرى أحدًا من الخلق ممن كنا نتعلق بهم ونراهم شيء، ولاشي من الآمال التي قطعت طريقنا عنك! وتلك اللحظة في يوم التناد يوم يناديهم أيين شركائي {ضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} غاب عنهم ماوجدوا من كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا، ستغيب ستنقطع ستظهر الحقائق لكن في وقت {مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} لاملجأ لهم من العذاب، مالهم من مهرب.

والمحيص بمعنى: المهرب مالهم من مكان يفرّون فيه. في يوم التناد ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ينادونهم نداءًا يظهر فيه آثار إيمانهم فأصحاب الجنة الذين عاشوا في الدنيا مستجيبين لربهم متيقّنين بما وعدهم، ينادون أصحاب النار {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} هذا بعد أن يحمدوا الله، الآية السابقة لهذه الآية {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} ثم يأتي نداءهم في يوم التناد: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} نحن على يقين أن ما وعدنا ربنا حقًا، ثم يتحول علم اليقين إلى عين اليقين، فيُنادي هؤلاء أهل النار، بمعنى أنهم يخاطبونهم، وسيسمعون أصحاب النار مع بُعد المسافة! ألا ترى سعة الجنة؟! وألا تسمع عن سعة النار؟! وأيضًا بينهما حجاب، لكن الله ـ عز وجل ـ ذاك الوقت يُبلّغ الصوت، وعلم الله وقدرته لا حدّ لها! فما الخبر؟
الخبر في النداء: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} وهذا من ارتباطهم بحالهم وتنغيص أعدائهم لعلم رفاهية حالهم؛ لأنهم كانوا في الدنيا يضلّلونهم، أهل النار يضللون أهل الجنة في الدنيا، بمعنى أنهم يحكمون عليهم بالضلال ويستهزؤون بهم، وكيف أنهم يصوّرون لهم أنهم حاربوا أنفسهم طيبات الدنيا وأنهم أخطؤوا في حق أنفسهم لما تزهّدوا، وفي الحقيقة: ما قدروا
الله حق قدره!

أهل الجنة ينادون أهل النار {أن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً}؟
وهذا ليس من باب طلب الخبر، الاستفهام هنا ليس المقصود منه الإجابة إنما المقصود منه بيان الحال
والتوبيخ.

فهذا السؤال فيه من التنويه أنك لابد أن تعيش في الدنيا متيقّنًا أن ما وعد الله حق وتحمل همّ يوم التناد وترجو من الله أن تكون من هؤلاء الذين هم أصحاب الجنة {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} بعد ما يتمتعون ويتحول علم اليقين إلى عين اليقين {وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً}.

ثم انظر لهذا اليوم العظيم أيضا، كما أن أهل الجنة سينادون أهل النار، أهل النار سينادون أهل الجنة {وَ نَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .

والمعنى أنهم من شدة ما هم فيه، ومن شدة اليأس ومن تعوّد حالهم على أن يسألوا غير الله ماذا فعلوا؟ {نَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا}، وكلمة أفيضوا من الكلمات الدقيقة جدًا، يعني يطلبوا منهم أن يصبوا عليهم ماء ليشربوا منه مما هم فيه من حال! {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ}، وهذا السؤال من أهل النار لأهل الجنة فيه تعريض بأمر دقيق: أن هؤلاء أصحاب الجنة عُرف عنهم السخاء وعرف عنهم ترك الدنيا وبذلها من أجل الله، فماذا كان من جواب أهل الجنة إلا أن {قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فالسخاء في موطنه سخاء أما في موطن لا يحبه الله ليس بسخاء، ثم انظر ماذا قالوا في وصفهم: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}

معنى ذلك أن أعظم أوصاف النار التي حرمت عليهم الجنة وحرمت عليهم ما فيها: أنهم {اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وهذا أخطر ما يكون عليه الخلق: أن لا يتصوّروا حقيقة الحياة الدنيا، فتغرّهم وتبعدهم، فإذا تبيّن للإنسان حقيقة الحياة الدنيا لا يمكن أن يتّخذ دينه لهوًا ولعبًا، وسيبقى يوم الحشر على باله، فقال الله في حقهم: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا}، والظاهر أن قوله تعالى : {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} هذا من كلام أهل الجنة، ثم قوله {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا}

المعنى أن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا، ومعلوم أن المقصود بالنسيان الإهمال، فلما كانوا في الدنيا يذكرون يوم القيامة ذكر من لا يتيقّن به، فكان الحال أن ينساهم الله عز وجل ويهملهم؛ تعذيبًا لهم!

فنسيانهم هذا إظهار أن حرمانهم للرحمة في أشدّ أوقات احتياجهم لها لأنهم نسوا طلب هذه الرحمة في الفرصة التي أُعطيت لهم!

لا تنسى يوم التناد {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} هذا اليوم العظيم يدعوهم الله، يناديهم وينادي كل أناس بإمامهم، فراجع نفسك، ما معنى يوم ندعو كل أناس بإمامهم؟ يعني ندعو كل أمة بإمامها: يا أمة محمد، يا أمة عيسى، يا أمة بوذا، يا أمة العزى، فهذا يوم التناد الذي ينادى فيه الخلق بإمامهم وستتبع أنت إمامك، لابد أن تتفكر يوم يناد الناس بإمامهم:
• من
إمامك؟

هل حقًا جعلت النبي إمامًا لك؟

• وهل حقّقت أن يكون إمامك؟!

فاحمل همّ هذا النداء.. احمل همّ هذا النداء!

ولو نظرت إلى آية الإسراء: {يوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * ومَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} .
اعتني بإمامك.

اعتني بمتابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

• غدًا سينادي يا أمة محمد فهل أنت من أمته؟!

نسأل الله أن يوفقنا لمتابعة سنته، نسأل الله أن يجعلنا ممن يعظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتابعها ويعمل بها مريدا وجهه سبحانه وتعالى.

أما هذا الأعمى فيطول الكلام عنه، لكن نبقى في الكلام حول الاستعداد ليوم التناد.

ومن هذه النداءات التي تكون يوم القيامة: نداء النار لأهلها نسأل الله أن يحفظنا! {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} هذه من النداءات التي هي على لسان أهل النار، إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي يسمعون صوتها يسمعون لها تغيظًا وزفيرًا!

والتغيظ :هو الغضب، والزفير: هو ارتداد النفَس، ثم إذا ألقوا منها مكانا ضيقا ويدعون ثبورًا والمقصود بالدعاء يعني النداء بأعلى صوت، والثبور الهلاك، ينادون ويصرخون ويقولون يا ثبورنا، يا هلاكنا! كأنهم ينادون الهلاك كأنهم يقولون يا هلاك أقبل ! لأنهم يتمنون الاستراحة من فظيع العذاب! فيردّ عليهم: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً}، كرروه، فلن ينفعكم ذلك!

ثم يقول: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} فانظر إلى الفارق؟! واعلم أن الفارق كله يدور حول كلمة واحدة {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} نسأل الله أن يرزقنا التوبة وأسبابها ويصرف عنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

لا تنسَ أنّ في يوم التناد هذا اليوم العظيم الذي تختلف فيه النداءات يصفه الله {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} انظر هذه الدعوات كلها! لابد أن تستعدّ لها وأن ترجو من الله أن لا تكون ممن ينادي في يوم التناد بهذه النداءات!

فدعاء الداعي يدعوهم الداعي يجمعهم أن اجتمعوا للحساب، وهذا الداعي يدعو إلى شيء عظيم، هول، ولهذا وصف بأنه (نُّكُرٍ) تنكره النفوس وتكرهه، ولذلك في يوم التناد يكون عند الخلق من الخوف الشديد ما يرجون أن ينادى عليهم {َأن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} عندهم من الخوف الشديد الذي لا يطمئنهم إلا أن ينادي بهم منادي {َأن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} فإيراث الجنة هو الذي نرجوه، نرجو أن نلتقي به يوم التناد.

فحقيقة الرحلة هذه الحياة هو ما وصف الله، سيأتي لحظة بعد هذه الرحلة فينادى عليك بأحد هذه النداءات:

هل سينادى عليك من مكان بعيد ؟

• أم ينادي عليك من مكان قريب ؟

هل ستكون ممن يسلم ويهنأ ؟

• أم ممن يوبخوا فيعتذر ؟!

لهذا من عرف حقيقة الرحلة، عامل الله بالتقوى واستعد لهذا النداء.
نحن بدأنا بنهاية الرحلة أن ينادى عليك ولذلك سمي يوم القيامة بيوم
التناد، ومر معنا في النقاش شيء من النداءات التي تكون يوم القيامة.

الآن نعود ونحن في وسط الرحلة ماذا علينا من أجل أن :

• تصحّ منا الرحلة ونصل إلى ربما سالمين

• ونكون من أهل الجنة الذين ينادَون لها، وينادُون أهل النار.

ماذا يجب علينا أن نعتقد؟ ماذا يجب علينا أن نتصوّر ؟

من أجل أن تتقي يوم التناد وتتخلّص من ذاك الفزع وبدل أن يكون موقفك يوم التناد موقف الفزع، ومن أجل أن يكون موقفك يوم التناد موقف السّار، لابد أولًا أن تتصور الدنيا: لأن تصوّر الدنيا يعينك على تقواها، أنت تحتاج أن تتقي الله، ومن أجل أن تتقي الله يجب عليك أن تتقي الدنيا بتصور حقيقتها .

غياب هذه الحقيقة عنّا يعني انشغالنا بها، يغيّبها عنها، والمسألة لابدّ لها من الصدق في تصوّر الرحلة، لا ينفع مجرد الكلام، لا يصلح قلوبنا مجرد الكلام، لابدّ أن نكون صادقين في تصور الرحلة.

وها أنا أكلمكم هذا في أول يوم من العشر وها أنتم ستغمضون أعينكم وترون الحج كله قد انتهى! فهل تتصوّر الدنيا إلا كما تتصوّر هذه الأيام السريعة؟! والله أمس كنا نتكلم في رمضان وفي دروسه وهاهو أتى هذا الموسم المبارك، وستنتهي كل الحياة بنفس الصورة!

لابدّ أن يكون هناك صدق في تصوّر الحقيقة ويكفي في هذا ما أخبرك الله بل أمرك أن تعلم هذا الأمر على الوجوب، (اعْلَمُوا) يجب عليك أن تعلم علمًا يقينيًا {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} .

لن تخرج الدنيا عن هذه الخمسة مهما بذلت لإقناع نفسك، لا تشحّ بالإنفاق في شيء من أجل لذائذ الحياة الدنيا، لابد أن تتصوّر حقارتها.

لما أخبر الله عن حقيقة الدنيا في سورة الحديد ضرب مَثَل يُبيّن لك كيف أنها زائلة حتى تزهد فيها لأن التعلّق بها يعوّق عن الفلاح! ولذلك {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} لابد أن تتصور الحياة، الحياة في حقيقتها وسيلة للنعيم الدائم في الآخرة ووقاية من العذاب الشديد، وما عدا ذلك فهو مجرد متاع قليل.

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} حصْر لحقيقتها، يعني ليست إلا هذا الشيء، وهذا قصر لأحوال الناس على هذه الأمور الخمس التي ذُكرت في الآية.

غالب الناس لا يخرجون في تصرفاتهم في الدنيا عن هذا، وهِمَمهم غالبًا في شؤون الحياة لا تخرج عن هذه الأمور، قد يسلم الإنسان من بعضها ليس شرطًا أن يكون كل هذا في إنسان واحد، لكن لابدّ أن يكون بعضها فإذا لم يكن كلها جزء منها.

هذا كله الموصوف في الآية واجب عليك اتقاؤه وواجب عليك أن تعمل أعمال التُقى والإحسان وتعليم الشرع وتعليم الفضائل فتكون لك الحياة وسيلة للنعيم.

انظر إلى هذه الخمسة أشياء:

1- اللعب: هذا اللعب ربما يكون في طور من أطوار حياة الخلق مثل الطفولة والصبا، فتجده وهو في هذه الحال يمضي وقته في إزالة وحشة الوحدة أو السكون يريد أن يجلب الفرح والمسرة لنفسه، يحب الطفل الصغير أن يجلب هذه الأشياء لنفسه ولمن يحب، أو حتى يمكن أن يجلب ضدها لمن يبغض.

فهذا اللعب هو غالبًا ما يكون على أعمال الأطفال، طور الطفولة طور اللعب، لكن الإشكال لو تطور هذا الطور فبقي كل العمر ونحن نلعب! ثم إذا لعب الإنسان في الدنيا، معناه أن عقله مثل عقل هذا الطفل، ما عمّر دنياه بما ينفعه، فإما أنه يلعب أو يأتي الأمر الثاني اللهو.

2- اللهو: وهو أي قول أو فعل يقصد منه الإنسان أن تتلذذ نفسه به ويصرفها عن ألم حاصل من تعب أو حزن أو كمد، فاللهو هذا غالبًا يكون في أحوال الشباب فيطلب اللذة والطرب ويطلب أن يغيب عن واقعه وعن حقيقة مصيره! وهذا لو استقر في النفس سترى صاحبه سكران بالدنيا، يجري فقط من أجل أن يهرب من شيء لا يعرفه!

ثم تأتي

3. الزينة: وهذه الزينة يحسّن فيها الإنسان نفسه وذاته بحيث يقع نظره على ما يسرّ. والناس مولوعون بالعناية بمظاهرهم ! فتراهم يزينون كل شي مساكنهم وملابسهم ويزينون حتى طعامهم ! وكل هذا لأنهم ينسون ماذا يريدون؟! فهذا لعب وهذا لهو وهذا زينة. ثم يأتي الوصف الرابع:

4. التفاخر: غالبًا يكون في الكلام، فكل واحد من أهل الدنيا يكون حريص على إظهار ما به يفخر على من حوله، فكل ناس يتفاخرون بحسبهم: فهناك من يتفاخر بماله، بأولاده، أحيانًا يتفاخرون بصفاتهم، المهم أنهم يتفاخرون من أجل أن يسمعون كلمة تطربهم، فلما تسكرهم الدنيا يريدون من يزيدهم في شكرهم فيظهرون كمالات لهم ويريدون من الناس الثناء عليهم بها.

إلى أن نصل إلى

5. التكاثر فتجد هذا الشخص يحرص على أن يكون الأكثر والأحسن في أي شيء. المهم أن لا يكون فلان أكثر مني ولا أحسن مني، وقد دخل هذا البلاء حتى على أعمال الخير! ليس تنافسًا من أجل الله إنما من أجل الدنيا ! الإنسان فيها إما: لاعب، لاه، متزيّن، متفاخر، متكاثر.

ثم وصف الله حقيقة الدنيا: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الغيث بمعنى المطر، حال الدنيا كحال غيث، فشبّه أهل الدنيا في أحوالهم الغالبة التي هي اللعب واللهو والزينة بهيئة الغيث أنبت زرعًا ثم أينع ثم اصفرّ ثم اضمحلّ وتحطم.

لماذا ضرب المثل بالزرع؟

• لأن الناس تحبه زاهي لهم .

وأيضًا سريع الانتهاء.

يعني الآن هذا مطر نزل ثم أنبت الزرع ثم استوى واكتمل ووقع الإعجاب به لمن رآه فمضت عليه مدة فيبس وتحطّم والكفّار هنا بمعنى الزرّاع، فهذا واحد زارع مجيد يعرف الحسن من القبيح ويميز تمييزًا دقيقًا.

فتخيّل لما هذا الذي يعرف المسألة يعجب ! معناها أنها على أحسن ما يكون، ثم يهيج: ييبس أو يجف، فإذا هاج: جفّ، ثم تراه هائجًا لا نظام له، فتراه مصفرًا، واصفراره دليل على تهيئه للزوال.

وهكذا الدنيا لابدّ أن تزول، ثم تتحطم يعني تصبح قطعًا مكسرة، وأطوار الإنسان التي يمرّ بها تشبه أطوار الزرع من:

شباب

وكهولة

وهرم

وفناء

وهكذا الزرع لكن كلها تجتمع في أنها: أعراض زائلة وآخرها فناء.

ثم انظر ماذا يكون: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} إمّا هذا وإمّا هذا، إما أن تكون من أهل الرضوان والمغفرة، وإما خلاف ذلك.

وهذا فيه من التحذير والتحريض ما فيه، لم يتبيّن من هم أصحاب العذاب ومن هم أصحاب المغفرة والرضوان لأنه ظاهر:

• أصحاب العذاب هم الذين انشغلوا وداروا بين اللعب والزينة والتفاخر واللهو والتكاثر.

والذين اتقوا هذا كله وطلبوا رضوان الله سيكون لهم رضوان الله.

ثم قرر الله في آخر الآية: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} معناها أنك خُدعت، كل الحياة الدنيا متاع. واحد اشترى من واحد ودفع ماله وخُدع، المتاع معروف، متاعك أي شيء تريد أن تتمتع به.

انظر لما تدفع مالك وتقبض البضاعة فتراها لاشي! بعد قليل هلكت، ذهبت، ما انتفعت بها على الوجه الذي كنت تظن أنك تنتفع بها على الدوام، تقول عنك أنك غُررت يعني خدعت، فتصور رأس مالك حياتك، وتصوّر ما أعطاك الله من طاقات وفُرص، وتصوّر ماذا اشتريت بها، إذا اشتريت الحياة الدنيا فقد قُبضت بالخداع وقبضت لاشي! ولذلك أتت الآية بعدها مباشرة تصور الرحلة: ماذا يجب عليك أن تفعل ؟

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لابد أن تسابق لهذه الجنة وتعرف أن الإيمان بالله ورسله هو الذي سيوصلك إلى مرادك، إذن هذه الرحلة التي نعيشها تصور نهايتها سيكون يوم التناد تصوّر حقيقتها :

لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر.

كيف أنجو في هذه الرحلة؟

{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}

هل تراه سباقًا؟

هل ترى أنك في الدنياتحتاج أن تجري للآخرة؟

كأنه يقول اتركوا المقصرين، اتركوا من اقتصر عقله على متاع الحياة الدنيا، اتركوهم وراءكم، كلمة (سَابِقُوا) تعبّر عن العناية والاهتمام لابدّ أن يلهب نفسك لهيبًا اصرف كل عنايتك بأقصى ما يمكنك من الفضائل تمامًا مثل واحد يسابق غيره إلى غاية.

احرص على أن تكون في كل خير في أوله، اترك من اقتصر عقولهم على متاع الحياة الدنيا، اتركهم وراءك.
ثم أتدري إلى أي شيء أنت ستسابق ؟! ستسابق إلى (مغفرة) مهما أسأت مهما عملت اعلم أن مسابقتك هذه ستكون لمغفرة، مهما أحسنت أنت محتاج إلى مغفرته، كأنه يقال أكثر من أسباب ووسائل المغفرة، المسابقة إلى
المغفرة هو الجري بكل قدرتك وأنفاسك أن تسابق لتصل لأسباب المغفرة .

هل تدري ما وراء هذه المغفرة ؟ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} أمْر وصفه لا تستطيعه العقول لكن تشتاقه، جنة أوجدها الله ـ عز وجل ـ لخلقه من أجل أن تبقى نفوسهم خالدة فيها.

أتدري ما الخلود فيها؟! النعيم الذي لا ينقطع, والمطلوب في زمن يسير تترك متاع الغرور وتلتفت إلى رب كريم، تتصوّر الدنيا على حقيقتها فتطردها من بين عينيك.

الدنيا خيال، لا يمكن أن تصرف أيها العبد حياتك للهوها وحقارتها.

الآخرة كمال، لابدّ أن ترغب غاية الرغبة فيها، افعل في السعي لها بالأعمال الصالحة حق السعي فِعْل شخص يسابق شخص فماذا يفعل؟ يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه، واترك من كان بطيئًا.

اجتهد، أجهد نفسك لكن في طاعته وفي الإخلاص له، سابق وسارع، تجرّد عن نفسك ومالك وجميع حظوظك، واعلم أن نهاية هذا {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ}.

معلوم أنك ضعيف، المقام مقامٌ عظيم والإنسان مهما كان ضعيف لا يسعه إلا العفو سواء كان هذا سابقًا أو لاحقًا، أنت تسابق إلى مغفرة يعني إلى ستر من ذنوبك عينًا وأثرًا .

أتدري من ربكم؟ ربكم الذي أحسن إليكم رباكم فنقلكم من النقص إلى التمام، أوجدكم وأعدّكم وأمدّكم، سابق إليه طالبًا أن يغفر لك، ولا تنسَ النتائج: جنة تامّة السعة، {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} شيء يفوق الخيال بل لا تستطيع أن يمر على خاطرك، هُيّئت لك ـ اللهم زدنا إيمانًا واجعلنا من أهلها

من تصوّر حقيقة الحياة ترك كل الخلق وسابق للغفور الشكور {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

فتعرّض لفضله، ألا تراه منّ علينا بهذه الأيام؟!

ألا تراه فتح لنا باب التوبة والاستغفار وتكبيره وتعظيمه؟!

كل هذا يحتاج منك إلى معرفة حقيقة الدنيا وحقيقة الرحلة فيها لتترك الدنيا وتعتني بالآخرة.

نسأل الله ـ بمنه وكرمه ـ أن يجعلنا ممن انصرفت قلوبهم عن الدنيا وتعلّقت بالآخرة من أجله، ولا يجعل في قلوبنا أحدًا غيره نعظمه أو نحبه وأن يجعل صلتنا بالخلق كلهم وسيلة إليه سبحانه وتعالى.

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم كما أمدّ في حياتنا لبلوغ العشر أن يبارك لنا فيها وأن ييسّر للحجاج حجهم ويوصلهم إلى مقصودهم ويردّهم إلى بلادهم وأن يرفع راية التوحيد وأن يجعلنا من أهلها ويجعل أصواتنا الضعيفة تصل إلى الخلق فتردهم إليه هو القادر سبحانه وتعالى على ذلك وهو وحده المسؤول .


جزاك الله خير الجزاء حبيتبي
طرح هادف
جعله الله في موازين حسناتكِ
اثابك الله

اقتباس : المشاركة التي أضيفت بواسطة ღ♥ ابنة الحدباء ღ♥

دار

جزاك الله خير الجزاء حبيتبي
طرح هادف
جعله الله في موازين حسناتكِ
اثابك الله

بارك الله فيك أيتها الغالية ابنة الحدياء
رضى الله عنك وأرضاك
وأعطاك وكفاك
وهداك وأغناك وعافاك وشافاك
وأجاب لك خير الرجاء

انتقاء هاااادف

جعله الله في ميزان حسناتكِ وصحائف اعمالكِ

وجزاكِ الله خير

وبارك فيكِ

لا عدمناااكِ

دار

جعلك الله ممن يناديهم المنادي يوم القيامة :
لكم النعيم سرمدا ..
تحيون ولا تموتون أبدا ..
تصحون ولا تمرضون أبدا ..
تنعمون ولا تبتئسون أبدا ..
يحل عليكم رضوان ربكم ولا يسخط عليكم أبدا ..

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.