غض البصر
العين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته .
قال_تعالى_: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ] النور: 30.
قال ابن تيمية رحمه الله : فجعل_سبحانه_غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس.
وزكاةُ النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك
وقال ابن القيم رحمه الله : ووقعت مسألةٌ: ما تقول السادة العلماء في رجل نظر إلى امرأة نظرة فعلق حبُّها بقلبه، واشتد عليه الأمر، فقالت له نفسه: هذا كله من أول نظرة فلو أعدت النظر إليها لرأيتها دون ما في نفسك فسلوت عنها؛ فهل يجوز تعمُّد النظر ثانياً لهذا المعنى؟
فكان الجواب: الحمد لله، لا يجوز هذا لعشرة أوجه:
أحدها: أن الله_سبحانه_أمر بِغَضِ البصر ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن نظر الفجأة، وقد علم أنه يؤثر في القلب، فأمر بمداواته بصرف البصر لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومُحالٌ أن يكون داؤه مما له، ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر قوة الأمر بالنظرة الثانية لا تناقضه، والتجربة شاهدة به، والظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة، فلا تحسن المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه، فزاد عذابه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه، فيزين له ما ليس بحسن؛ لتتم البلية.
السابع: أنه لا يعان على بليته إذا أعرض عن امتثال أوامر الشرع، وتداوى بما حرمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ومعلوم أن الثانية أشد سمَّاً؛ فكيف يتداوى من السم بالسم؟
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق_عز وجل_في ترك محبوب_كما زعم_وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه؛ فإن لم يكن مَرْضِيَّاً تركه؛ فإذاً يكون تركه لأنه لا يلائم غرضه، لا لله_تعالى_فأين معاملة الله_سبحانه_بترك المحبوب لأجله؟ .
العاشر: يتبين بضرب مَثَلٍ مطابق للحال، وهو أنك إذا ركبت فرساً جديداً فمالت بك إلى درب ضيق لا ينفذ، ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج، فإذا همَّت بالدخول فيه فاكبحها؛ لئلا تدخل، فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فصِحْ بها ورُدَّها إلى وراء عاجلاً قبل أن يتمكن دخولها، فإذا رَدَدْتها إلى ورائها سهل الأمر، وإذا توانيت حتى ولجت، وسقتها داخلاً ثم قمت تجذبها بذَنبها عسر عليك أو تعذر خروجها؛ فهل يقول عاقل إن طريق تخليصها سوقُها إلى داخل؟
فكذلك النظرة إذا أثَّرت في القلب، فإن عجل الحازم، وحَسَم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر، ونقَّب عن محاسن الصور، ونقلها إلى قلب فارغ، فنقشها فيه_تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمي حتى يفسد القلب ويُعْرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويُلقي القلب في التلف.
والسبب في هذا أن الناظر التذت عينُه بأول نظرة، فطلبت المعاودة، كأكل الطعام الذي إذا تناول منه لقمة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه وسلم.
وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم : النظرة سهم مسموم من سهام إبليس .
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (292) والحاكم في المستدرك 4/313_314 من حديث حذيفة مرفوعاً، قال الحاكم: = هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه+ وتعقبه الذهبي فقال: =فيه إسحاق بن عبد الواحد القرشي واه، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه .
وأخرجه الطبراني في الكبير (10362) بنحوه من حديث ابن مسعود، وضعفه المنذري في الترغيب (2838) .
فإن السهم شأنه أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السم الذي يُسقاه المسموم، فإن بادر واستفرغه، وإلا قتله ولابد .
وقال رحمه الله : ولما كان النظر أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه، وأباحته في موضع الحاجة، وهذا شأن كل ما حُرِّم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للمصلحة الراجحة .
قال جرير بن عبدالله_رضي الله عنهما_: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري .
أخرجه أحمد4/358_361، وأبو داود (2148) ، والترمذي (2776) ، وقال: حسن صحيح .
قال ابن القيم رحمه الله : ونظر الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد من الناظر؛ فما لم يعتمدْه القلب لا يعاقب عليه، فإذا نظر الثانية تعمداً أثِمَ؛
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند نظر الفجأة أن يصرف بصره، ولا يستديم النظر؛ فإن استدامته كتكريره.
وأرشد من ابتلي بنظر الفجأة أن يداويه بإتيان امرأته، وقال: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ رأَى امرأةً ، فدخلَ على زينَبَ ، فقضى حاجتَه وخرجَ وقالَ : إنَّ المرأةَ إذا أقبَلَت أقبَلَت في صورةِ شيطانٍ ، فإذا رأى أحدُكم امرَأةً فأعجبَتهُ ، فليأتِ أَهلَه ، فإنَّ معَها مِثلَ الَّذي معَها الراوي: جابر بن عبدالله المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم: 1158
خلاصة حكم المحدث: صحيح
فإن في ذلك التسلي عن المطلوب بجنسه.
والثاني: أن النظر يثير قوة الشهوة فأمره بتنقيصها بإتيان أهله؛ ففتنة النظر أصل كل فتنة كما ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد_رضي الله عنهما_أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما تركت بعدي فتنة هي أضرَّ على الرجال من النساء .
البخاري (5096) ومسلم (2740) .
وقال ابن القيم رحمه الله مبيناً فوائد غض البصر: وفي غض البصر عدة فوائد:
أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة؛ فإن من أطلق نظره دامت حسرتُه؛ فأضر شيء على القلب إرسال البصر؛ فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه، وعذابه.
قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة؛ فَجَعَلْتُ أنظر إليها، وأملأ عيني من محاسنها، فقالت: يا هذا ما شأنك؟ قلت: وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائداً = لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر = عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعله السهم في الرمِيَّة، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر = ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرةٍ فتكتْ في قلب صاحبها = فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلِّبها = في أعين الغِيْدِ موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته = لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
والناظر يرمي من نظره بسهام غَرَضُها قلبه وهو لا يشعر.
قال الفرزدق:
تَزَوَّدَ منها نظرةً لم تدع له = فؤاداً ولم يشعر بما قد تزودا
فلم أرَ مقتولاً ولم أرَ قاتلاً = بغير سلاح مثلها حين أقصدا
وقال آخر:
ومن كان يؤتى من عدوٍّ وحاسدٍ = فإني من عيني أُتيْتُ ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة = فما أبقيا لي من رقاد ولا لُبِّ
وقال المتنبي:
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه = فمن المطالبُ والقتيل القاتل
الفائدة الثانية: أنه يورث القلبَ نوراً، وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.
كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه؛ ولهذا_والله أعلم_ذكر الله_سبحانه_آية النور في قوله_تعالى_: [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] النور: 35 عقيب قوله: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ] النور: 30.
وجاء الحديث مطابقاً لهذا المعنى حتى كأنه مشتق منه، وهو قوله: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس؛ فمن غض بصره عن محاسن امرأة أورث الله قلبه نوراً
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (292) والحاكم في المستدرك 4/313_314 من حديث حذيفة مرفوعاً، قال الحاكم: = هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه+ وتعقبه الذهبي فقال: =فيه إسحاق بن عبد الواحد القرشي واه، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه .
وأخرجه الطبراني في الكبير (10362) بنحوه من حديث ابن مسعود، وضعفه المنذري في الترغيب (2838) .
الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة؛ فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوَّة تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها؛ فإذا أطلق العبد نظره تنفَّست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها كما قيل:
مرآةُ قلبك لا تريك صلاحه = والنفس فيها دائما تتنفس
وقال شجاع الكرماني: من عَمَرَ ظاهرَه باتباع السُّنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال_لم تخطىء فراسته .
وكان شجاع لا تخطىء له فراسة.
والله_سبحانه وتعالى_يجازي العبد على عمله بما هو من جنسه؛ فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله إطلاق بصيرته؛ فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.
الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب؛ فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض.
ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه، وأظلم، وانسد عليه باب العلم وطرقه.
الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، وفي الأثر: إن الذي يخالف هواه يَفْرَقُ الشيطان من ظله .
ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب، وضعفه، ومهانة النفس وحقارتها_ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه.
وقال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله.
الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سروراً، وفرحة، وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر؛ وذلك لِقَهْرِهِ عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه، وأيضاً فإنه لما كفَّ لذته، وحبس شهوته لله، وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء أعاضه الله_سبحانه_مسرة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله لَلذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة؛ فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه؛ فهو، كما قيل:
طليق برأي العين وهو أسير
ومتى أسرت الشهوةُ والهوى القلبَ تمكن منه عدوُّه، فسامه سوء العذاب، وصار:
كعصفورة في كف طفل يسومها = حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
الفائدة الثامنة: أنه يسد عنه باباً من أبواب جهنم؛ فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريمُ الرب_تعالى_وشرعه حجاب مانع من الوصول؛ فمتى هتك الحجاب ضريَ ، ولم تقف نفسه منه عند غاية؛ فإن النفس لا تقنع بغاية تقف عندها؛ وذلك أن لذَّتها في الشيء الجديد؛ فصاحب الطارف لا يقنعه التليد، وإن كان أحسن منظراً، وأطيب مخبراً؛ فغض البصر يسد هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه.
الفائدة التاسعة: أنه يقوي العقل، ويزيده، ويثبته؛ فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب؛ فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب، ومُرْسِل النظر لو علم ما تجني عواقبُ نظره عليه لما أطلق بصره، قال الشاعر:
وأعقلُ الناسِ من لم يرتكب سبباً = حتى يفكر ما تجني عواقبه
الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سُكْرِ الشهوة، ورقدة الغفلة؛ فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق كما قال_تعالى_عن عشاق الصور: [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] الحجر: 72.
فالنظرة كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر؛ فإن سَكْرانَ الخمر يُفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات، كما قيل:
سكْران: سُكْرُ هوىً وسُكر مدامةٍ = ومتى إفاقةُ مَنْ به سكران
وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبهنا عليه تنبيهاً .
وأن يجاهد نفسه على ذلك غاية المجاهدة؛ فعصرنا هذا عصر الفتن من مجلات،
وقنوات فضائية ونحو ذلك مما يصعب الخلاص منه إلا بتوفيق من الله،
وصدق توكل عليه، وقوة إرادة وعزيمة.
مقتطفات من كتاب / التوبة وظيفة العمر
جزاكِ الله كل خير وزادكِ في علمكِ
ورزقكِ الخير كله وبارك فى عمركِ وشرح لكِ صدركِ ويسر لكِ أمركِ …
شَرآئط عِرفَآنْ وَجدَآئِل شُكرْ دُمتي هَكذَآ
تقدٌيرُيَ وُأحترُآميُ لـِ سموك
يهيمن الصّمت فوق الحروف
فيصبح القلم عصيّاً
ويخونني فرس المداد
رغم أني أسرجته ليرمح بعيداً بين السطور
كلّ يومٍ أتعلّم منك أكثر
لقلبك الفرح
دمتِ بحفظ الرحمن
شكرا من القلب لمرورك الرائع كروعة روحك
لك أرق التحايا واعذبها ودمت بكل خير وحب
دمت بحفظ الرحمن