ويقول تعال:( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل),
[النساء:58], ويقول سبحانه:( وأمرت لأعدل بينكم), [ الشوري:15]. ولاحظ تكرار كلمة الأمر مع كلمة العدل.. إن قضية العدل ليست قضية اختيارية أو من فضائل الأعمال, إنما هي أمر إلزامي لا تقوم الشريعة إلا به, ولا يستقيم لمؤمن أن يحكم بغيره.
وحياة رسول الله صلي الله عليه وسلم كانت مثالاً واقعيًا لقيمةِ العدل,
وظهر ذلك في كل كلماته وأفعاله..
روي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
سبعة يظلهم الله تعالي في ظله يوم لا ظل إلا ظله, ذكر منهم: إمام عدل.
(متفق عليه)
وتروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال كذلك:
من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين.
رواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق
ويقول صلي الله عليه وسلم أيضا فيما يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنه:
من أعان علي خصومة بظلم أو يعين علي ظلم. لم يزل في سخط الله حتي ينزع.
رواه ابن ماجه والطبراني بسند جيد
لقد جاءت كل هذه الأحاديث بألفاظ عامة تشمل المسلمين وغير المسلمين, فالظلم مرفوض بكل صوره, ومحرم مهما كانت الظروف, وليس الاختلاف في العقيدة, أو في العرق والنسب, أو في العلاقة والرابطة القبلية مبررا أبدا لأي درجة من الدرجات.
ومع هذا الوضوح في التعبير إلا أن رسول صلي الله عليه وسلم أراد أن يقطع السبيل علي كل مسلم في أن يعتقد أن الظلم مسموح به ـ ولو بدرجة يسيرة ـ مع غير المسلمين,
فقال في كلمات رائعة ما يجب أن نحمله إلي كل إنسان علي سطح الأرض,
ليعلم من هو رسول الله صلي الله عليه وسلم:
ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس, فأنا حجيجه يوم القيامة.
رواه أبو داود (3052) وحسنه ابن حجر
ولم تكن هذه الكلمات الرائعة والمعاني النبيلة مجرد قواعد نظرية لا مكان لها في حياة الناس,
بل كان لها الانعكاس الواضح علي كل مواقفه وتصرفاته صلي الله عليه وسلم
فكان يبرز هذا المعني بجلاء في كل معاهداته وارتباطاته,
ويحرص علي توفير العوامل المساعدة لإتمامه علي أكمل وجه.
ففي معاهداته مع اليهود ـ مثلا ـ عند هجرته للمدينة أبرز هذا المعني بصورة جلية
في نصوص المعاهدة, فكان منها:
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه, وإن النصر للمظلوم.
فكانت هذه القاعدة علي سبيل التصريح بأن الظلم غير مقبول مطلقا,
وأن النصر للمظلوم سواء كان هذا المظلوم مسلما أو يهوديا,
وهو ما أيده الواقع بعد ذلك..
وكانت بنود المعاهدة كلها مما ينطق بالعدل ويؤكده.
ومثلما ركز صلي الله عليه وسلم علي هذه المعاني في معاهدته مع اليهود,
فعل الشيء نفسه عندما تعاقد مع النصاري,
فقد قال صلي الله عليه وسلم في معاهداته مع نصاري نجران:
ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر.
ولضمان استمرار العلاقة بين المسلمين والنصاري علي أساس العدل,
قرر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يرسل مع نصاري نجران
رجلا يباشر تنفيذ ما اتفقوا عليه, علي أن تكون أهم صفات هذا الرجل هي الأمانة..
وعلي الرغم من أن الأمانة صفة لازمة في كل الصحابة رضي الله عنهم,
إلا أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد اختار من تبلغ فيه هذه الصفة حد الكمال,
حتي يصفه بقوله صلي الله عليه وسلم: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين.
حتي إن الصحابة رضي الله عنهم تمنوا جميعا أن يكونوا ذلك الرجل,
فقال صلي الله عليه وسلم: قم يا أبا عبيدة بن الجراح.
فلما قام, قال صلي الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة.
وعندما أراد رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يرسل رجلا إلي خبير
لتنفيذ ما اتفق عليه المسلمون واليهود بعد فتح خيبر من قسم ثمار خيبر بين الطائفتين,
أرسل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه, وكان العدل هو سمته البارزة,
حتي إن بعض اليهود لما اعترضوا علي طريقة التقسيم قال كلمته المشهورة:
يا معشر اليهود, أنتم أبغض الخلق إلي, قتلتم أنبياء الله ,
وكذبتم عليهم الله, وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم.
فالظلم غير مسموح به حتي وإن كان الحكم بين رسول الله صلي الله عليه وسلم
أحب الناس إلي قلب ابن رواحة رضي الله عنه, واليهود أبغض الناس إليه.
ويبدو أمر الاهتمام بالعدل مع غير المسلمين بارزا جدا
في وصيته صلي الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وهو يرسله إلي اليمن,
وبها كثير من النصاري واليهود.. قال له:
إنك ستأتي قوما أهل كتاب, فإذا جئتهم فادعهم إلي أن يشهدوا أن لا إله إلا الله,
وأن محمدا رسول الله, فإنهم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله
قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة,
فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد علي فقرائهم,
فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم,
واتق دعوة المظلوم, فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
فهذه وصية جامعة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه,
ولكل المسلمين, فيجب الا تلهيه القوة أو السلطان عن رؤية الحق
وعن نصرة المظلومين, إذ إن دعوة المظلوم ـ
بصرف النظر عن ديانته أو عقيدته ـ
ليس بينها وبين الله عز وجل حجاب.
هذه هي نظرة رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي المظلوم بصفة عامة,
وإن كنت مستغربا لها فاستمع إلي كلامه صلي الله عليه وسلم في حديث آخر حين قال:
اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا, فإنه ليس دونها حجاب.
أخرجه أحمد (3/153)، والشهاب في "المسند" (2/97)، والضياء في "المختارة" (7/293) وصححه، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/152). وانظره في "الصحيحة" (767) للألباني. قال المناوي في "التيسير" (1/31): "إسناده صحيح".
وفي رواية أخري لأحمد قال صلي الله عليه وسلم:
دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا, ففجوره علي نفسه.
أخرجه ابن أبي شيبة (29374)، و أحمد (2/367)، والشهاب (1/208)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/151)، قال ابن حجر في "الفتح" (3/360): "وإسناده حسن"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (3382)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (2229).
فهذا تصريح بين أن المظلوم ليس بينه وبين الله حجاب,
ومن هنا فإن المسلم الصادق لا يظلم أبدا لإحساسه الدائم برقابة الله عز وجل,
وأن المسألة مسألة عقائدية, وأن الله عز وجل ينصر المظلوم يوم القيامة علي الظالم,
وإن كان المظلوم كافرا والظالم مسلما,
وأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقف مع المظلوم ضد الظالم
يوم القيامة بصرف النظر عن ديانة كل منهما.
هذا هو ديننا لمن لا يعرفه,
وهذه هي أخلاقنا التي نعتز بها,
وهذه هي شريعة الاسلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. راغب السرجاني
(بتصرفي وتخريجي للأحاديث)
دمتن بخير