تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » رمضان – ربح كبير بعمل قليل

رمضان – ربح كبير بعمل قليل 2024.

دار

رمضان – ربح كبير بعمل قليل

رمضان، كم من جوائز تُذكر، ومِنَح ربانية لا تُنكَر، ونفحات لا تُجحد، على عملنا اليسير، وجُهدنا القليل، وجسدنا النحيل، فتبارك العليُّ القدير الذي وعد ووفَّى، وأعطى فأجزل، وغفر ورحِم، ووهب في هذا الشهر الجليل رحماته للمؤمنين، وأعتقهم من مهاوي الجحيم!



فينبغي للمسلمين لزومُ حقيقة الصيام، والعكوف على تلاوة القرآن، والاجتهادُ في لياليه في طاعة ربهم، والتعرُّض لنفحاته – تعالى – بالأخص في الليالي الفاضلة؛ قيامًا، ودعاءً، وتضرُّعًا، فشهر رمضان مَوسِم من مواسم الأعمال، ولا شك أن المواسم مظنةُ إجابة الدعاء، فلعل دعوةً تشقُّ عَنانَ السماء، تُرفع عنها الحُجب، فيتقبلها الله – تعالى – فيحظى صاحبُها بسعادة لا يشقى بعدها أبدًا، ومن وُفِّق للعمل وُفِّق للقَبول، ومَن أُعين على الدعاء، فحريٌّ أن يُستجابَ له؛ قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "إني لا أحملُ همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاءَ، فإن الإجابة معه" [1].


ولنعلم يقينًا أننا إن أكثرنا من العبادة فالله – تعالى – أكثرُ منا في الثواب، وأكرم منا في الجزاء والعطاء؛ قال الصحابة – رضي الله عنهم -: "إذًا نُكثِر"، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اللهُ أكثرُ)) [2].


وعن طلحة بن عبيدالله – رضي الله عنه -: أن رجُلينِ من بَلِيٍّ، قدِمَا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان إسلامُهما جميعًا، فكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهدُ منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام، بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارجٌ من الجنة، فَأَذِن للذي توفي الآخِرَ منهما، ثم خرج، فأذِن للذي استُشهد، ثم رجع إليَّ فقال: ارجع فإنك لم يَأْنِ لك بعدُ، فأصبح طلحة يحدِّث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – وحدَّثوه الحديث، فقال: ((من أي ذلك تعجبون؟))، فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدَّ الرجلين اجتهادًا، ثم استُشهد، ودخل هذا الآخِرُ الجنةَ قبله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أليس قد مكث هذا بعده سنة))، قالوا: بلى، قال: ((وأدرك رمضانَ، فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السَّنة))، قالوا: بلى، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض)) [3].

السائحون الصائمون:
قال – تعالى – مبشِّرًا المؤمنين: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112].

قال ابن جرير: أما قوله: ﴿ السَّائِحُونَ ﴾، فإنهم الصائمون، وهو قول أبي هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير، وعبدالرحمن ومجاهد، والحسن والضحَّاك، وقالت عائشة: سياحةُ هذه الأمة: الصيام.

قال قتادة: ﴿ السَّائِحُونَ ﴾ قومٌ أخذوا من أبدانهم صومًا لله – عز وجل[4]، وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عُيينة، قال: إنما سُمي الصائمُ السائحَ؛ لأنه تاركٌ للذات الدنيا كلها: من المطعم، والمشرب، والمنكح، فهو تارك للدنيا بمنزلة السائح[5].

وقال الزمخشري: ﴿ السَّائِحُونَ ﴾ الصائمون، شبِّهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم[6]، وقال الشعراوي: إن السياحةَ أطلقت على الصيام؛ لأن السياحة تُخرجك عما ألِفْتَ من إقامةٍ في وطن ومال وأهل، والصيام يخرجك عما ألِفْتَ من طعام وشراب وشهوة[7].

قال بعضهم: الصوم ضربان: (حقيقي)، وهو ترك المطعمِ والمنكح، وصوم: (حكمي)، وهو حفظُ الجوارح عن المعاصي؛ كالسمع والبصر واللسان، فالسائح هو الذي يصوم هذا الصوم دون الصوم الأول[8].

وبشرى لكُنَّ – أيضًا – أيتها الصائمات؛ حيث قال – تعالى -: ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [التحريم: 5]، قال ابن عباس: ﴿ سَائِحَاتٍ ﴾: صائمات، وهو قول قتادة والضحاك.

وِرْث السقيا:
الصوم يُورث السُّقيا يوم العطش؛ فعن ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بَعث أبا موسى رضي الله عنه – على سَرية في البحر، وبينما هم كذلك قد رفعوا الشِّراع في ليلة مظلمة، إذا هاتفٌ فوقهم يهتف: يا أهل السفينة، قِفُوا أُخبِركم بقضاءٍ قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبِرْنا إن كنت مخبرًا، قال: إن الله – تبارك وتعالى – قضى على نفسه أنه من أعطَش نفسَه له في يوم صائفٍ، سقاه الله يوم العطش، وفي رواية: أن من عطَّش نفسه لله في يوم حارٍّ، كان حقًّا على الله أن يرويَه يوم القيامة[9].

فكان أبو موسى يتوخَّى اليوم الشديد الحرِّ الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حرًّا، فيصومه.

يقول ابن رجب عن بعض السلف قال: بلغنا أنه يوضع للصوَّام مائدةٌ يأكلون عليها والناس في الحساب، فيقولون: يا رب، نحن نحاسب وهم يأكلون، فيقال: إنهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتُم.

الصوم سبيل الجنة:
قال الحبيب – صلى الله عليه وسلم -: ((من خُتِم له بصيام يوم، دخل الجنة))[10].

قال المناوي: من خَتم عمره بصيام يومٍ – بأن مات وهو صائم أو بعد فطره من صومه – دخل الجنةَ مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب[11]، ورواه أحمدُ بإسناد لا بأس به، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يا حذيفة، من خُتم له بصيام يوم يريد به وجه الله – عز وجل – أدخله الله الجنةَ))[12].

وعن أبي مالك الأشعري قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة لغُرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن أطعَم الطعامَ، وألان الكلامَ، وتابع الصيامَ، وصلى بالليل والناس نيام))[13].

قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: "يا أوليائي، طالما نظرتُ إليكم في الدنيا، وقد قصلت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينُكم، وجفَّت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأسَ فيما بينكم".

وقال الحسن البصري:
تقول الحوراءُ لوليِّ الله وهو متَّكئ معها على نهر العسل، تعاطيه الكأس: إن اللهَ نظر إليك في يوم صائفٍ بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجره من جهد العطش، فباهى بك الملائكةَ، وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجتَه وشهوته ولذَّته وطعامه وشرابه من أجلي رغبةً فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرتُ له، فغفر لك يومئذ وزوَّجنيك.

كان بعضُ الصالحين كثيرَ التهجد والصيام، فصلَّى ليلة في المسجد ودعا، فغلبته عيناه، فرأى في منامه جماعةً علِم أنهم ليسوا من الآدميين، بأيديهم أطباقٌ عليها أرغفة بياض الثلج، فوق كلِّ رغيف دررٌ كأمثال الرمَّان، فقالوا: كُلْ، فقال: إني أريد الصوم، قالوا له: يأمرك صاحبُ هذا البيت أن تأكلَ، قال: فأكلتُ، وجعلت آخذ ذلك الدرَّ لأحتملَه، فقالوا له: دعه نغرِسْه لك شجرًا ينبت لك خيرًا من هذا، قال: أين؟
قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغيَّر، ومُلْك لا ينقطع، وثياب لا تَبلى، منها قرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يَغرْنَ، فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوةٌ حتى ترتحلَ فتنزل الدار، فما مكث بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفِّي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعضُ أصحابه الذين حدَّثهم برؤياه، وهو يقول: لا تعجَب من شجر غُرس لي في يوم حدثتك، وقد حمل، فقال له: ما حمل؟
قال: لا تسأل، لا يقدِرُ أحدٌ على صفته، لم يُرَ مثلُ الكريم إذا حلَّ به مطيعٌ[14].


[1] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية (8/ 193).

[2] الترمذي (3573).

[3] الحديث رواه ابن ماجه في سننه، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (2 – 346) برقم (3171)، وفي صحيح الترغيب رقم (373)، ورواه الإمام أحمدُ في مسنده (16 – 170) رقم (8380) عن أبي هريرة، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.

[4] الدر المنثور: (5/ 171).

[5] الدر المنثور: (5/ 172).

[6] الكشاف: (2/ 478).

[7] تفسير الشعراوي: (1/ 3748).

[8] المفردات في غريب القرآن؛ للراغب: (1/ 246).

[9] حسن، قال المنذري: رواه البزار بإسناد حسن.

[10] صححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6224).

[11] فيض القدير (6/123).

[12] الحديث صحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/412).

[13] إسناده حسن لغيره؛ رواه ابن خزيمة في صحيحه، وقال الألباني في التعليق على صحيح ابن خزيمة: إسناده حسن لغيره (3/ 306 – 307).

[14] لطائف المعارف ص 178.


د – خالد النجار

دار
دار

دار

جزاك الله خيرا

مقالة في غاية الروعة

اللهم صل وسلم على نبينا محمد

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.