السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نسَبُهُ – صلى الله عليه وسلم -:
هُو أَبُو الْقَاسِمِ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِمَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لؤَيَ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
هَذَا هُوَ المتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ – صلى الله عليه وسلم، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَدْنَانَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَسْمَاؤُه – صلى الله عليه وسلم -:
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((إِنَّ لِي أَسْمَاء: أَنَا مُحَمَّدٌ, وَأَنَا أَحْمَدُ, وَأَنَا الماحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ, وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ))؛ متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يُسَمِّي لَنَا نَفْسَه أَسْمَاءً فَقَال: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ, وَالمُقَفِّي, وَالْحِاشِرُ, وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيّ الرَّحْمَةِ))؛ رواه مسلم.
طَهَارَةُ أَصْلِهِ – صلى الله عليه وسلم -:
وَهَذَا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلى دَلِيلٍ فَإِنَّهُ – صلى الله عليه وسلم – المصْطَفَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَسُلَالَةِ قُرَيْشٍ، فَهُو أَشْرَفُ الْعَرَبِ نَسَبًا, وَهُوَ مِنْ مَكَّةَ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وَقَدِ اعْتَرف أَبُو سُفْيَانَ – وَذَلِكَ قَبْل إِسْلاَمِهِ – بِعُلُوِّ نَسَبِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَشَرَفِه، وَذَلك حِينَما سَأَلَهُ هِرَقْلُ عَنْ نَسَبِه فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ فِينا ذُوْ نَسَبٍ، فَقَال هِرَقْلُ: "وَكَذِلِك الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا"؛ متفق عليه.
وَقَال – صلى الله عليه وسلم – : ((إِنَّ اللهَ – عَزَّ وَجلَّ – اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْراهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ))؛ رواه مسلم.
وَمِنْ طَهَارَةِ نَسَبِه – صلى الله عليه وسلم – أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ صَانَ وَالِدَيْهِ مِنْ زَلَّةِ الزِّنَا, فَوُلِد – صلى الله عليه وسلم – مِنْ نِكَاحٍ صَحِيح وَلَمْ يُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ[1]، كَمَا قَالَ – صلى الله عليه وسلم – : ((خَرَجْتُ مِنْ نِكاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي، لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الجاهِلِيَّةِ شَيءٌ))؛ رواه الطبراني في "الأوسط"، وحسنه الألباني.
وَقَالَ – صلى الله عليه وسلم – : ((خَرَجْتُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ مِنْ نِكَاحٍ غَيْرِ سِفَاحٍ))؛ رواه ابن سعد، وحسَّنه الألباني.
وَرَوى ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْكَلْبِيِّ – رَحِمَهُ اللهُ – قَالَ: "كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – خَمْسَمِائةَ أُمٍّ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهنَّ سِفَاحًا، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ".
قَوْلُه: "خمْسُمائةَ أُمٍّ": يُريدُ الجدَّاتِ وَجَدَّاتِ الجدَّاتِ مِنْ قِبَل أبِيه وَأُمِّه.
قَالَ النَّاظِمُ:
حَتَّى تَنَقَّلَ فِي نِكَاحٍ طَاهرٍ مَا ضَمَّ مُجْتَمِعَين فِيهِ حَرَامُ
فَبَدا كَبَدْرِ التمِّ لَيْلةَ وَضْعِهِ مَا شَانَ مَطْلَعَهُ المنِيرَ قَتَامُ
فَانْجَابَتِ الظَّلْمَاءُ مِنْ أَنْوَارِهِ وَالنُّورُ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ ظَلَامُ
شُكْرًا لمُهْدِيهِ إِلَيْنَا نِعْمَةً لَيْسَتْ تُحِيطُ بِكُنْهِها الْأَوْهَامُ
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] السِّفَاحُ: الزِّنَا.
اشْتُهِر النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – قَبلَ الْبَعثَةِ فِي قَوْمِه بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَان يُعْرَفُ بَينهُم بِالْأَمِين، وَهُو لَقَبٌ لَا يتَّصِف بِه إِلَّا مَنْ بَلَغَ الغَايَةَ فِي الصِّدقِ وَالْأَمَانَةِ وَغَيْرِهما مِنْ خِصَال الخَيْرِ.
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ – صلى الله عليه وسلم – أَعداؤُه بِذَلِك، فَهَذَا أَبُو جَهْلٍ كَانَ مَعَ بُغْضِه للنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَتَكْذِيبه لَهُ يَعْلَم أَنَّه صَادِقٌ، وَلِذَلِكَ لَما سَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ مُحَمَّدٌ صَادِقٌ أَمْ كَاذِبٌ؟
قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! وَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ، وَمَا كَذبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهبتْ بَنُو قُصَيّ بِالِّلوَاءِ وَالسِّقَايَةِ، وَالحجَابَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذا يَكُونُ لِسَائِر قُرَيْشٍ؟!
وَهَذَا أَبُو سُفْيَانَ وَكَانَ – قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ – مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوةً لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – لَما سَأَلهُ هِرَقْلُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَه بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُول مَا قَالَ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا. فَقَالَ هِرَقْلُ: وَسَألتُكَ هَلْ كُنتُمْ تَتَّهِمُونَه بِالْكَذِب قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكْرتَ أَنْ لَا، فَقَدْ عَرَفتُ أَنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ.
وَهَذِه خَدِيجةُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – لَمَّا جَاءَهَا النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَرْتَجفُ وَيقُولُ: ((زَمِّلُونِي دَثِّرُونِي))، وَذَلِك إِثْرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ بِغَارِ حِرَاءٍ، قَالَتْ لَه: "أَبْشِر كَلَّا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُق الحدِيثَ…"؛ متفق عليه.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسِ – رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى صَعِد الصَّفَا، فَهَتفَ: ((يَا صَبَاحاهُ))، فَقَالُوا: "مَنْ هَذَا؟"، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((أَرَأَيْتُم إِنْ أَخْبَرتُكمْ أَنَّ خَيْلاً بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيّ؟))، قَالُوا: "نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا"، قَالَ: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدِي عَذَابٍ شَدِيدٍ))؛ متفق عليه.
إِنَّ صِدْقَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَمَانتَه قَدْ جَعلَتِ المشْرِكِينَ يَتَخبَّطُونَ فِي الحُكْمِ عَلَيْهِ، فَمَرَّةً يَقُولُون: سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَمَرَّةً يقُولونَ شَاعِرٌ، وَمَرَّةً يقُولونَ كَاهِنٌ, ومَرَّةً يقُولونَ مَجْنُونٌ, وَكَانوا يَتَلَاوَمُون فِي ذَلِك، لأنَّهمْ يَعلَمُون جَمِيعًا بَراءَةَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ هَذِه الْأَوْصَافِ وَالْأَلْقَابِ الذَّمِيمَةِ.
فَهذَا النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ الَّذِي بَالَغَ فِي إِيذَاءِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ لِقُريشٍ: يَا مَعْشرَ قُرَيشٍ! إِنَّه – وَاللهِ – قَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمرٌ مَا ابتُلِيتُم بِمثلِه؛ لَقدْ كَانَ مُحمدٌ فِيكُمْ غلامًا حَدَثًا، أَرْضَاكم عَقْلاً، وَأَصْدَقَكُم حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُم أَمَانَةً، حَتّى إِذَا رأيتُمْ فِي صِدْغَيهِ الشِّيبَ، وَجَاءكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِه قُلتُم سَاحِرٌ، لَا – واللهِ – مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ، لَا وَاللهِ مَا هُوَ بِكاهنٍ، وَقُلْتُمْ شَاعِرٌ, وقلتُمْ مَجنونٌ, ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَر قُرَيشٍ! انْظُرُوا فِي شأنِكُم, فَإِنَّه – واللهِ – لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
وَأَمَّا أمانةُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -:
فَإِنَّهَا كانَتْ سَببًا مُبَاشِرًا فِي رَغْبَةِ خَدِيجةَ – رَضِي اللهُ عَنْها – أَنْ تَكُونَ زَوْجةً للنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَيْثُ كَانَ يُشْرِفُ عَلى تَجَارَتِهَا بالشَّامِ، وَقَدْ عَلِمتْ مِنْ غُلَامِها مَيْسَرةَ مَا بَهَرهَا مِن أَمانَتِه وَكَرِيمِ أَخْلَاقِه – صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ أَمَانَتِه – صلى الله عليه وسلم -:
أَنَّ مُشْرِكي قُرَيشٍ – مَعَ كُفْرِهِمْ بِه وتكْذِيبِهمْ لَهُ – كَانُوا يَضعُون عِنْدَه أَمْوالَهم، وَيَستأْمِنُونَه عَلَيْهَا، وَلمّا أَذِنَ اللهُ تَعالى لَهُ بالهجْرَةِ إِلَى المدِينَةِ خَلَّف النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَليًّا – رضي الله عنه – فِي مَكَّة لِتَسْلِيم الْأَمَانَاتِ إِلَى أهلِها.
إِنَّ أَعْظَم الأَمَانَاتِ الَّتِي تحمَّلَها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَدَّاهَا أَحْسَن الْأَدَاءِ وَأكملَه هِي: أمانةُ الوَحْيِ وَالرِّسَالةِ الَّتِي كَلَّفَهُ اللهُ تَعَالَى بِتَبلِيغِها للنَّاسِ, فَبلَّغَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الرِّسَالةَ أعْظَم البَلاغِ، وَأَدَّى الأمَانَةَ أعْظَمَ الأَداءِ، وَجَاهَدَ أَعْدَاء اللهِ تَعالى بالحُجَّةِ والبَيَانِ، وَالسَّيفِ والسِّنانِ, فَفَتحَ اللهُ بِه الفُتوحَ، وَشرحَ لدعْوَتِه صُدورَ المؤمِنينَ, فَآمَنُوا بِه وَصَدَّقُوهُ ونَصرُوهُ وآزَرُوهُ، حَتَّى علتْ كَلِمةُ التَّوْحِيدِ، وانْتَشرَ الْإِسلامُ فِي مَشَارِق الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَلَمْ يَبْقَ بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إِلَّا أَدخلَه اللهُ تَعالى هَذَا الدينَ.
فَصلواتُ اللهِ وسلامُه عَلى الصَّادِق الأمِينِ الَّذِي جَاهَدَ في اللهِ حقَّ جِهادِه حَتّى أَتاهُ الْيقِينُ.
قَالَ تَعَالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81، 82].
قَالَ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَمِّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: "مَا بَعثَ اللهُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ, إِلَّا أُخِذَ عَلَيهِ الميثَاقُ، لَئِنْ بَعثَ اللهُ مُحَمَّدًا وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤمِنَنَّ بِه ويَنْصُرَنَّه، وَأَمرَهُ أنْ يَأخُذَ الميثَاقَ عَلَى أُمَّتِه؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمدٌ وَهُمْ أَحْيَاءُ، لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّه"[1]، وَرُوِي عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوُه.
وَقَالَ – سُبْحَانَه وَتَعَالَى – حَاكِيًا عَنْ إِبْرَاهِيْمَ – عَلَيْهِ السَّلامُ -:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يَقُولُ تَعالَى إِخْبَارًا عَنْ تَمامِ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَهْلِ الحَرَمِ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ؛ أَيْ مِنْ ذُرِّيةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَافَقتْ هَذهِ الدَّعوةُ المسْتَجابةُ قَدَرَ اللهِ السَّابِقَ فِي تَعْيِينِ مُحَمَّدٍ – صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِ – رَسُولاً فِي الْأُمِّيِّينَ إِليهمْ، وَإِلَى سَائِرِ الْأَعْجَمِيِّينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالجِنِّ؛
وَلم يَزلْ ذِكْرُه – صلى الله عليه وسلم – فِي النَّاسِ مَذْكُورًا مَشْهُورًا سَائِرًا، حَتَّى أَفْصَح بِاسْمِه خَاتَمُ أَنْبِياءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَسَبًا، وَهُوَ عِيسىَ ابْنُ مَرْيَمَ – عَلَيْه السَّلَامُ – حَيْثُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا، وَقَالَ: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، وَلهذَا قَالَ فِي هَذا الحدِيثِ: ((دَعوةُ أَبِي إِبْرَاهِيم، وبُشْرَى عِيسَى ابْنِ مَرْيم))[2].
وَأَمَّا وُرودُ ذِكْر فَضَائِلِه – صلى الله عليه وسلم – وَمنَاقِبه فِي الكُتُب القَدِيمَةِ، فَيدُلُّ عَلَيْهِ قَولُ اللهِ تَعَالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَاللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ – رضي الله عنهما – فَقُلْتُ: "أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي التَّوْرَاةِ"، قَالَ: "أَجَلْ وَاللهِ، إِنَّه لموْصُوفٌ في التَّورَاةِ بِصِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا للأمِّيِّينَ, أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي, سَمَّيتُكَ المتَوَكِّلَ, لَيْسَ بِفَظٍّ, وَلَا غَلِيظٍ, وَلَا صَخّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ, وَلَا يُجْزِي بالسَّيِّئَةِ السَّيئةَ, وَلكِنْ يَعفُو وَيغْفِر، ولَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الملَّةَ العَوْجَاءَ؛ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إلهَ إِلّا اللهُ, فَيَفْتَحُ بِه أَعْينًا عُمْيًا, وَآذانًا صُمًّا, وَقُلُوبًا غُلْفًا"؛ رواه البخاري.
وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: قَدِمَ الجَارُودُ بْنُ عَبْدِاللهِ فَأَسْلَمَ وَقَالَ: "وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحقِّ لَقَدْ وَجَدتُ وَصْفَك فِي الْإِنْجِيلِ، وَلَقَدْ بشّرَ بِك ابْنُ البَتُولِ"؛ أَيْ عِيسَى ابْنَ مَريمَ – عَليه السَّلَامُ.
وَعَنْ أَبِي مُوسى الْأَشْعَرِيِّ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ النَّجَاشِيُّ: "أَشْهدُ أَنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ الله, وَأَنَّه الَّذِي بَشَّر بِهِ عِيسى، وَلوْلَا مَا أَنَا فِيه مِنْ أَمْرِ المُلْكِ، وَمَا تَحمَّلتُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، لَأَتَيْتُه حَتَّى أَحْمِلَ نَعْلَيْه"؛ رواه أبو داود.
[1] – "تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ": (1/493).
[2] – تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيْرٍ (1/243).
رَحْمَتُه – صلى الله عليه وسلم – بِأَعْدَائِهِ:
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – رَحْمةً لِلبَشَرِيَّةِ كُلِّها، وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ – تَبَارَكَ وَتَعَالَى – بِذَلِكَ فَقَال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
وَقَالَ النِّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً))؛ رواه مسلم.
فَكَانَتْ رَحْمتُه – صلى الله عليه وسلم – رَحْمةً عَامَّةً شَمِلَتِ المؤْمِنَ وَالكَافِرَ، فَهَا هُوَ الطَّفَيْلُ بْنُ عَمْروٍ الدَّوْسِيُّ – رضي الله عنه – يَيأْسُ مِن هِدَايةِ قَبِيلَتِه دَوْسٍ، فَيذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَد عَصَتْ وَأَبتْ, فَادْعُ اللهَ عَليْها، فَاسْتَقْبَل الرَّسولُ – صلى الله عليه وسلم – الْقِبلةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَأَيْقَن النَّاسُ بِهَلاكِ دَوْسٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وَلَكِنَّ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وائتِ بِهمْ))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
دَعَا لَهُمْ بِالهِدَايةِ وَالرَّشَادِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِم بِالعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ، لأَنَّه لَا يُرِيدُ للنَّاسِ إِلَّا الخيْرَ وَلَا يَرْجُو لَهُمْ إِلَّا الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ.
وَيَذْهَبُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِلى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ قَبَائِلِها إِلَى الْإِسْلَام، فَيُقَابِلَهُ أَهْلُهَا بِالجُحُودِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيُغْرُوا بِه سُفَهَاءَهُمْ، فَيَضْرِبُوهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْ عَقِبَيْهِ – صلى الله عليه وسلم.
وَتَرْوِي عَائِشةُ – رَضِي اللهُ عَنْهَا – مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَومٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟"
قَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ – وَكَانَ أَشدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُم – يَوْمَ الْعَقَبةِ، إِذْ عَرضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْد يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلى مَا أَردْتُ، فَانْطَلقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْريلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ – عَزَّ وَجَلَّ – قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي اللهُ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك فَما شِئْتَ؟ إِنْ شِئتَ أَنْ أُطْبِق عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ((بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))؛ متفق عليه.
إِنَّها الرَّحْمَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي جَعلَتِ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يَنْسَى جِرَاحَه الَّتِي تَسِيلُ، وَقلْبَه المنْكِسِرَ، وَفُؤادَه المكْلُومَ، وَلَا يَتذكَّر سِوَى إِيصَالِ الخيْرِ لِهؤلاءِ النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور وَهِدَايتَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ المسْتَقِيمِ.
وَيفْتَحُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – مَكَّةَ، وَيدْخُلُها فِي عَشْرةِ آلافِ مُقَاتِلٍ، وَيُحكِّمُه اللهُ – عَزَّ وجَلَّ – فِي رِقَاب مَنْ آذَوْه وَطَردُوه وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِه، وَأَخْرَجُوه مِن بَلدِهِ، وَقَتلُوا أَصْحَابَه وَفَتنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.
فَيَقُولُ أَحَدُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الفَتْحُ الْأَعْظَمُ "اليومَ يَوْمُ الملْحَمَة" فَيَقُولُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((بَلْ اليَوْمَ يَومُ المرْحَمَةِ)).
ثُمَّ يخْرُج النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – إِلى هَؤُلاءِ المنْهزِمِينَ وَقَدْ شَخِصتْ أَبْصَارُهمْ، وَوجِلَتْ قُلوبُهمْ، وَجَفَّتْ حُلُوقُهمْ، يَنْتَظِرونَ مَاذا سَيفْعَلُ بِهم هَذا القَائِدُ المنتَصِرُ، وَهمُ الّذِينَ اعْتادُوا عَلى الْغَدْرِ وَالانْتِقامِ وَالتَّمثيلِ بِقَتْلى المسْلِمينَ كَمَا فَعلُوا فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا.
فَقَالَ لَهمْ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((يَا معْشَر قُرَيْشٍ مَا تروْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟))، قَالُوا: خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أخٍ كَرِيمٍ.
فَقَالَ لَهم النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ" فَانْطلَقوا كَأَنَّهم نُشِروا مِنَ القُبورِ)).
فَهذَا العَفْو الشَّاملُ نَتيجةُ الرَّحْمةِ الَّتِي فِي قلْبِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَالَّتِي عَظُمَتْ لتَشْمَل أكْثرَ أَعْدَائِهِ إِيذاءً لَه وَلأصْحَابِه، فَلَوْلَا هَذِهِ الرحمةُ لما حَدثَ هَذا الْعَفْوُ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ يَقُول: ((إِنَّما أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ))؛ رَوَاه الحاكم.
رَحْمَتُهُ – صلى الله عليه وسلم – بِالْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ:
ذَكَرْنَا أَنَّ الرحمةَ النَّبويَّةَ اتَّسعَتْ لِتشْملَ الْكَافِرَ فَضْلاً عَنِ المسْلِمِ الموَحِّدِ، وَنَزيدُ هُنَا أَنَّ رحْمةَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – تَجاوَزَتِ الجنْسَ البَشَرِيَّ حَتَّى شَمِلَتِ الحَيوَانَ والجَمَادَ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَد بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَىَ مِنَ الْعَطَشِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلَبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ, فَمَلَأ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ))، قَالُوا: يَا رَسولَ اللهِ! وَإِنَّ لَنَا فِي هَذه البَهائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَال – صلى الله عليه وسلم -: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))؛ مُتَّفَقٌ عليه.
بِهذِه الْقَاعِدةِ الْعَامَّةِ ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ))، سَبقَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – جَمِيعَ المنظَّماتِ وَالهيْئَاتِ الَّتِي تُعنَى بِالدِّفَاع عَنْ حُقُوقِ الحَيوَان وَالرِّفْقِ بِهِ، سَبَقها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمِئاتِ السِّنينَ يَوْمَ قَال: ((عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ, سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ, لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ))؛ متفق عليه.
وَالنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَقْصِدُ بِهذَا تَعلِيمَ أَصْحَابِهِ الرِّفْقَ بِالحيوَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْه، وَيُبيِّنُ لَهمْ أَنَّ قَتلَ الحيوَانَ غَيْرِ المأَذْونِ فِي قتْلِه, أَوْ التَّسبُّبَ فِي قَتْلِه يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ سَببًا فِي دُخُولِ النَّارِ وَالعِياذُ بِاللهِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا تَعْرِفُه القَوانِينُ الوَضْعِيَّةُ الَّتِي يحكُمُ بِها النَّاسُ اليَوْمَ.
وَحَذَّر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مِن قَتْلِ الحَيوَانِ بِلَا هَدفٍ، فَقَالَ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ((مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ))، قِيل: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا حقُّها؟ قَالَ: ((حَقُّهَا أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا, وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهِ))؛ رواه النَّسائيُّ.
وَقَدْ أَمَرَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِالإحْسَانِ عِنْدَ ذَبْحِ الذَّبَائحِ فَقَال – عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ, وَلِيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))؛ رواه مسلم، وَقَدْ ذَكر أَحدُ الْعُلَماءِ أَنَّ بعضَ الغَرْبِيِّين أَسْلَموا لمّا عَلِمُوا آدابَ الإِسْلامِ فِي الذَّبْح، وَهَذَا يَدلُّ عَلى كَمالِ هَذَا الدِّيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَللهِ الحمْدُ وَالمِنَّةُ.
وَقَالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا))؛ متَّفقٌ عليْهِ؛ أَيْ: لَا تتّخذُوا الحيوَانَ الحيَّ هَدفًا تَرمُونَهُ بِسِهامِكُمْ, لَأَنَّ هَذَا مُنَافٍ للرَّحمةِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى المؤْمنِ أَنْ يتحلَّى بِها.
وَالنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَرْفَعُ الظُّلْمَ والقهرَ حَتَّى عَنِ الحيوَانِ، وَيهتَمَّ بذَلِكَ أَشدَّ الاهْتِمامِ، فَقَدْ دَخلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بُستانًا لِرجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ, وَإِذْ فِي البُسْتَانِ جَمَلٌ, فَلَمَّا رَأى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – حَنَّ وذَرِفَتْ عَيْنَاهُ.
فَأتَى إِليهِ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَمسحَ عَلَى رَأْسِه، فَسكَن, ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَل؟))، فَجَاءَ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَقالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((أَلَا تتقِي اللهَ فِي هَذِهِ البَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟ فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُه[1]))؛ رَواهُ أَبُو داود، وصحَّحه الألبَانيُّ.
وَللجَمادِ نَصيبٌ مِنَ الرَّحْمةِ المحمَّدِيةِ, فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لمّا صُنِعَ لَه المنبرُ، صَاحَتِ النخْلَةُ الَّتِي كَانَ يخْطُب عَلَيْها صِياحَ الصَّبِيِّ، فَنَزَلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ عَلَى المنْبَرِ، فَضَمَّها إِلَيْهِ، فَجَعلتْ تَئِنُّ أنِينَ الصَّبيِّ الَّذي يُسَكَّن، فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم -: ((بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ)).
كَان الحسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهذا الحدِيثِ بَكَى، وَقَالَ: يَا مَعْشَر المسْلِمِيْنَ الخشبة تَحنُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – شوقًا إِلَى لِقَائِهِ، فَأنْتُم أَحَقُّ أَنْ تَشتَاقُوا إِلَيْهِ[2].
ـــــــــــــــــــ
[1] تُدْئِبهُ: تُهْلِكُه بالعَمَلِ المتَواصِل.
[2] "فتح الباري": (6/602).
د. عادل بن علي الشدي
اللهم صلي وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وازواجه وذريته صلاة وسلاماََ دائمين متلازمين إلى يوم الدين
أختي الحبيبة …
موضوع أكثر من رائع ومهم جداً ،
نور الله قلبك بذكره
ورزقك حبه وأعانك على طاعته
وأكرمك بجنته وبصحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
صلى الله عليك يا حبيبي يارسول الله
لقد وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها بكلمة تجمل كل الكلام حيث قالت
" كان خلقه القرآن " او " كان قرآنا يمشي على الارض "
نسال الله أن نحسن الاقتداء بحبيبنا وسيدنا محمد صلَ الله عليه وسلم