علم البيئة
علم البيئة حديثنا هنا عن المباديء الاساسية للبيئة، ونلتقي مع غايا، ونخرج في جولة في المدينه.
في هذه الايام، لم يعد لمشاكل البيئة حدود. الامطار الحامضيه، وسخونة الكوكب، واتساع ثقب الاوزون، كلها تشكل تحديات كبيره. لهذا دق ناقوس الخطر: والهدف منه، انقاذ الكوكب، والحياة التي عليه، قبل فوات الاوان.
قبل ان تصبح البيئة هي القائمة على هذا العالم الذي نربطه اليوم بشؤون البيئه، والتخضير واعادة التصنيع، فان البيئة هي اولا علم ينكب على دراسة العلاقة بين العضويات والاجواء المحيطة بها.
للاجواء المحيطة تأثير كبير على حياة العضويات. والحرارة هي واحد من عناصره الرئيسه. ففي المناطق الشمالية على سبيل المثال يخضع الشتاء جميع الكائنات الحية الى ظروف بالغة القسوه. العوامل المحيطة من عناصر غير عضويه هي التي تحدد شروط الحياة بالنسبة للكائنات الحيه.
على كل فأن الكائنات الحية تفعل ما هو اكثر من مجرد العيش في هذه الاجواء. اذ ان التفاعل مع الاجواء المحيطة يسهم في تعديلها. اليك القندس من القوارض مثلا. حين يقوم ببناء سد في طريق الماء، يوقع الفيضان في اجوائها الفوضى.
فيؤدي ذلك الى قيام اجواء جديده. المستنقع الذي يجد الظروف الملائمة لخلق نباتات جديده هي النباتات المائيه. كزنبق الماء، وحيوانات اخرى كالضفادع والسمندل.
كل هذه الكائنات النباتية والحيوانية تشارك القندس في البيئة الجديده وتتفاعل بين بعضها البعض وضمن مجتمع واحد يضم كل الانواع التي تعيش هناك.
ضمن العلاقات المختلفه التي تربط هذه الاعضاء بين بعضها البعض، يعتبر الطعام الموضوع الاهم الذي تتشارك فيه. يمكن ان توصف هذه العلاقة بشبكة اطعمة تتشكل من سلسلة مصادر غذائيه.
لنأخذ غابة موسمية كمثال على ذلك. ففي القاعدة تعتبر النباتات شبكة للاطعمه. فهي تقوم بدور المنتجين.
انها قادرة على الاحتفاظ بأشعة الشمس وتخزينها على شكل طاقة كيميائيه. تأتي الحيوانات التي تقتات على الاعشاب في الدرجة الثانيه، فهي المستهلك. انها تحول عشره بالمئه من الطاقة المخزنة في انسجة النباتات الى انسجة حيوانيه.
وبعدها الحيوانات المفترسه، الذئاب والثعالب مثلا. فهي تخزن ايضا عشره بالمئة فقط من الطاقة الكيميائية التي تستهلكها. فقدان الطاقة هذا بين كل درجة واخرى، يختصر السلسلة الغذائيه. وهناك القليل من الحالات التي تزيد السلسلة عن اربع درجات. بعد هذا الرقم لن تجد ما يكفي من الطاقه، لدعم الحيوانات المفترسه.
بيئة الكائنات الحيه، والأجواء الطبيعية المحيطة بها، تشكل نظاما من التفاعل المشترك، لهذا التفاعل المشترك ان يقوم في غابة، او في بحيرة، او حتى في المحيط.
ينجم نظام التفاعل عن مرحلة زمنية سريعة او بطيئة من التطور. عادة ما يتم هذا التطور على مراحل متعاقبه. يمكن ان نرى هذا التعاقب في جانب من غابة التهمتها الحرائق.
النباتات الاولى التي تعاود غزو تربة الغابه، تعرف اليوم بالانواع الطلائعيه. وهي عادة ما تكون نباتات عشبية كزهرة عصا الذهب.
القادرة على النمو في تربة تنقصها الرطوبه. تنمو هذه النباتات بسرعة هائله الى ان تسيطر على مساحة الارض. فهي تحيي التربه،
وتساعدها على ان تصبح خصبة من جديد.
وتذهب هذه النباتات ضحية انتاجيتها، فبأحيائها للتربة تجعل الارض خصبة لانواع اخرى غيرها.
فتحل محلها نباتات كالعليق، وتوت العليق ، واللبلاب السام. التي تتكاثر بسرعة وتتنافس لتحل محل النباتات الطلائعيه.
شيئا فشيئا تأخذ نباتات اخرى بالنمو تدريجيا، كاشجار البرقوق او الخوخ والحور الى ان تسيطر على المنطقه. النباتات في كل مرحلة جديدة اكبر من سابقاتها، وهي تحتاج لفترة اطول كي تنمو. وهكذا فأن كل مرحلة وسيطة من النمو هي اطول مما يسبقها.
واخيرا تظهر الاشجار الاولى على السطح. هذه الاشجار التي تتضمن البتولا والحور الرجراج، تلتهم النور بجشع. فهي ترتفع بسرعة لتشكل غابة متعاليه تترك تحتها مساحات من الظلال بالكاد تسمح لصغيراتها بالنمو لنقص النور.
وهكذا تموت هذه الاشجار دون ان تترك خليفة لها. بل تفسح بالمجال تدريجيا لانواع تستطيع احتمال الظل، كحال شجر القيقب والسنديان او البلوط. تميز هذه الاشجار الغابات الناضجه.
حينها تصل التحولات في الغابة الى مرحلة من الاستقرار، تسمى بالذروه. اشجار السنديان والقيقب اليانعه التي تنمو في الظل تحل محل الاشجار الهرمة حال سقوطها. وهكذا يبقى حال الغابة على حاله ، طالما لم تتعرض الى الكوارث الطبيعيه.
من بين كل عناصر البيئة على هذا الكوكب، تعتبر الغابة في حال الذروة من اكثرها اجلالا. لهذا يمكن للاعتبارات الفلسفية والجمالية، في هذا المجال، ان تكون متناسقة مع علوم البيئه، لتلفت انظارنا تجاه الاهمية التي لاتحصى ولا تقدر لغاباتنا.
يعتقد بعض العلماء ان الارض هي كائن حي، ويطلقون عليها اسم، غايا. بأعتمادها على حكمة الدهر التي امضته في الفضاء، تشرف غايا على ثروتها، الحياة، بمباركة العين الساهرة لدى شريكتها: الشمس.
قبل ثلاثة بلايين ونصف البليون سنه، كانت الشمس ما تزال كوكبا يانعا بعد، يطلق اشعة اقل بنسبة خمسة وعشرون بالمئه من السخونة التي يطلقها اليوم. رغم ذلك فأن الحرارة على كوكب الارض، بدأت تؤدي الى ولادة الحياة.
منذ ذلك الدهر البعيد، اخذت الشمس تسخن تدريجيا. وقد نتوقع ان تصبح الحارة على سطح الارض غير قابلة للاحتمال ولكن هذا ليس ما نعنيه هنا.
حرارة سطح الارض كانت دائما صالحة للحياة. وفق ما يقوله العالم الانجليزي، جيمس لافلوك، وهذا لم يحدث بمحض الصدفه. فقد تولت الحياة مهام تأمين الظروف الملائمة لنموها.
يقول لافلوك، ان الكائنات الحيه، في قشرة الارض، والمحيطات، والغلاف الجوي، تشكل وحدة متكامله. انها اجزاء مكملة لشخصية تتصرف وكأنها كائن حي.
وقد اطلق لافلوك على هذا الكائن لقب غايا. تيمنا بالتسمية الاغريقية القديمة لالهة الارض .
وفق نظرية لافلوك، يمكن لغايا ان تتحكم بحرارتها كأي حيوان دموي دافيء. لتصوير هذه القدرة ، قام بتطوير نموذج مبسط لغايا سماه، عالم المارغاريتا. او زهور الربيع.
عالم المارغاريتا كوكب شبيه بكوكبنا، يدور حول شمس، هي تؤام لشمسنا.
كما يوحي اسمه، يعج كوكب المارغاريتا بزهرة الربيع الصغرى وحدها، والتي تتراوح الوانها بين الاسود والابيض. ويمكن لهذه الزهرة ان تنمو ضمن درجات حرارة تتراوح بين الخمس درجات والاربعين درجة حراريه.
خلال الموسم الاول، كانت شمس كوكب المارغاريتا بارده نسبيا. فكان خط الاستواء وحده دافئا بما يكفي لتواجد الحياة. فنمت كل انواع المارغاريتا هناك.
علما ان الزهور الداكنة يمكنها ان تمتص كمية نور اكبر من الزهور الفاتحة الالوان.
ففي المناطق التي كانت تكثر فيها الزهور السوداء، نشأ طقس مصغر، ارتفعت الحرارة فيه عن الخمس درجات.
بالمقابل فأن الزهور البيضاء تعكس كثيرا من اشعة الشمس. وفي المناطق التي تكثر فيها الزهور البيضاء، هبطت الحرارة عن الخمس درجات، ما ادى الى موت العديد منها.
عنى ذلك ان تنمو وتتكاثر الزهور الداكنة بسرعه، لتساهم في رفع درجة الحرارة في الكوكب بكامله. وعلى الفور بدأت شمس المارغاريتا تنتج مزيدا من الحراره. فوصلت عند خط الاستواء الى ما فوق الاربعين درجه، ما ادى الى موت كميات هائله من الزهور الداكنه.
وبما ان الزهور البيضاء تعكس اشعة الشمس، حلت هذه محل الزهور الداكنه، لتنزل درجة حرارة الكوكب الى مستويات مقبوله.
اثبت نموذج زهور الربيع، ان المارغاريتا الضعيفة تستطيع نظريا، ان تعدل حرارة الكوكب بأكمله.
ولكن كيف ينطبق هذا النموذج على كوكبنا؟
يقول لافلوك انه يتم التحكم بطقس غايا، بين اشياء اخرى، من قبل مكروبات الطحالب في البحر. تعيش هذه الطحالب تحت سطح المحيط. وهي تطلق الى الغلاف الجوي بجزيئات صغيره من المركبات الكيميائية تعرف بسولفات الدايماثي، او الdms.
حين تعلو في الهواء، تتحول ال dms الى قطرات من حامض السولفر. هذه القطرات من حامض السولفر تجعل بخار الماء يتكاثف.
لتتولى بالتالي عملية تشكيل الغيوم.
كلما ازداد عدد الطحالب، كلما تزايد انتاج الdms، ليتراكم حجم الغيوم. وكلما ازداد حجم الغيوم، كلما منعت وصول اشعة الشمس، لتعكسها نحو الفضاء من جديد.
فتكون النتيجة ان يتلقى الكوكب كمية اقل من نور الشمس. فينخفض معدل حرارته. هذا الانخفاض في درجة الاحرارة واشعة الشمس لا يتناسب ونمو الطحالب.
وهكذا فهي تطلق كمية اقل من ال dms في الغلاف الجوي، ما يبطيء من عملية تشكيل الغيوم. فيثير دورة من التسخين.
وعندما تصبح اشعة الشمس ودرجة الحرارة مؤاتيان من جديد. تأخذ الطحالب بأنتاج مزيد من الdms التي تزيد من تراكم الغيوم وهكذا دواليك.
كان الاعتقاد السائد حتى الان يؤكد ان الكائنات الحية تعتاد فقط على الظروف البيئية التي تفرض عليها.
الا ان لافلوك يؤكد العكس تماما.فهو يرى ان الكائنات الحية يمكنها تعديل الاجواء المحيطة بما يلائمها. لهذا يرى ان غايا بصحة وعافيه. بعد ما يزيد عن ثلاثة الاف وخمسمئة مليون سنه، على ظهورها.
خلاصة القول، ان لافلوك ليس مهتما بصحة غايا. فمن وجهة نظره، حتى تسخين الكوكب الناجم عن نشاط الانسان، يمكن تعديله بسهولة من خلال تعديل غايا لحرارتها الذاتية.
اي تسخين كهذا على مستوى الكوكب سيساوي اشتعال الحراره. واذا ما تعرضت صحة غايا لاصابة جدية، لا بد ان تلجأ فورا للتخلص من اسباب الألتهابات.
يؤكد لافلوك انه حيال ظروف كهذه، ربما تعالج غايا نفسها بطريقة تعود بالفائدة على الكوكب ككل، ولكنها تضر بالجنس البشري.
يؤكد لافلوك انه ان لم يكف الانسان عن الضرر بصحة غايا، ربما يجبر على تذوق دوائها. لتحاشي غضب كوكب الارض يجب ان نتعلم اصلاح ما ارتكبناه في حق البيئه. كأن نسعى للحؤول دون توسع المدن ، على حساب نظام التفاعل بعناصر البيئة المحيطة بها.
ليس هناك ما هو بعيد عن الطبيعة اكثر من صنيعة الانسان التي تعرف بالمدن. علما ان الامور في المناطق السكانية تسير على اساس التفاعل بين الانسان ومحيطه.
كأي تفاعل طبيعي، تعتبر المدينة مكانا يحصل فيه تبادل مستمر للطاقة والماده. هذا التبادل يصون حياة الأجسام التي تعيش هناك.
لندخل الان احدى الغابات. تتولى الشمس تمويل الغابة بما تحتاجه من طاقة لاستمرار حياتها. حين تلامس النباتات، يتم تخزين اشعة الشمس من خلال عملية الفوتوسينتيسيس وعلى شكل مركبات كيميائية كالغلوكوز.
يتم تخزين هذه المركبات في انسجة النباتات. بعدها يصبح جزءا من هذه الطاقة الكيميائية في متناول حيوانات تقتات على النبات. فيأتي دور الحيوانات المفترسه، التي تتغذى بدورها على حيوانات تعيش على النبات.
تعتمد عمليات المدينة على تمويل الطاقة الغذائيه. علما ان الاشجار والنباتات الاخرى في المدينة لا تلعب سوى ادوارا جمالية لا اكثر.
وعلى المدن ان تستورد اطعمتها من المناطق المحيطه، كما هو حال المزارع المتخصصه.
يتم استهلاك غالبية الطاقة في المدن من خلال اشياء لا حياة فيها كالسيارات والمباني والمصانع.
تعتمد هذه الاشياء على طاقة من الوقود كالنفط والغاز اوالكهرباء. المدن التي تجبر على استيراد هذه الطاقة تعتمد كليا على مصادر الطاقة الخارجيه.
في اجواء التفاعل الطبيعي، تنجم النفايات عن النباتات والحيوانات، هذه النفايات تمول التربة بعضويات حية بالمقابل، كدود الارض والخنفساء، مع ما تحتاجه من طاقه.
يكمن دورها في تكرير المواد العضويه، التي تقوم النباتات بأستهلاكها عبر الجذور.
ولا شك ان الحياة اليومية لسكان المدن، تنتج النفايات ايضا. الا ان تكرير النفايات الناجم عن استهلاك الانسان ما يزال في مراحله الاولى. الحل الاكثر شيوعا لهذه النفايات هو دفنها في مساحات من الاراضي، او حرقها في مناطق كثيرا ما تكون وسط المدن.
تشارك العضويات في جميع مناطق التفاعل بتعديل بيئتها. ومنها الطقس على سبيل المثال. بالابقاء على جزء من الحرارة في قشرة الارض او بالهواء، تحتفظ النباتات بنوع من الغطاء الجوي حول نفسها.
تقيم الغابة ايضا ما يشبه الاجواء المصغرة التي تختلف عن المناطق المجاورة لها.
للمدن ايضا اجواؤها الخاصه، اذ يصدر عن المحركات المستعملة في سياراتها وفي المصانع، الى جانب الكائنات الحية في المنازل، كميات كبيرة من الحراره.
ابنيتها وشوارعها المصنوعة من اللاسمنت والاسفلت، مشبعة بهذه الحرارة وبحرارة الشمس.
اضف الى ان الكثير من الغازات السامة كثاني اكسيد الكربون، تحتفظ بشيء من هذه السخونه. فتكون النتيجة تشكيل جيوب من السخونة فوق المدن.
هذا ما يحصل تماما عند حلول الليل، حين تأخذ المباني والشوارع بأطلاق بعض من هذه السخونه. حرارة المدن في الليل قد تزيد من ستة الى ثمانية درجات عن معدل الحرارة في المناطق المجاوره.
لاعداد المباني الكثيرة في المدن تأثير اخر على الطقس. اذ انها توقف حركة الرياح. حين تعترضها ناطحات السحاب لا تجد الرياح سبيلا اخرا سوى ان تعصف بالشوارع الضيقة بعنف شديد.
عندما يحدث ذلك تفقد الرياح كثيرا من طاقتها. لهذا قل ما ينجح الهواء المنعش في تجديد هواء المدينه، ولهذا ايضا تحتفظ المدينة بأجوائها وبطبقة الدخان الدائمة فوقها.
ينجم تفاعل عناصر البيئة عن عملية تطور.
اليك مثال الغابة القديمة التي احرقتها النيران. تقوم الاعشاب بغزو الارض اولا، ولكن قريبا تجد الشجيرات ظروفا ملائمة لنموها فتنافس الاعشاب. وبعدها يحل الشجر محل الشجيرات لتعلوا اشجار الغابة الجديده. فترقى الغابة اخيرا الى حالة من الاستقرار، المعروف بمرحلة الذروه، حيث تصبح متوازنة مع بيئتها.
كثيرا ما تمر المدينة بحالة من النمو المشابه. ففي البداية يتجمع الاعضاء المؤسسين لمجتمع ما حول نقطة المركز، التي هي الساحة العامه.
فيقيمون احياؤهم السكنية حول الساحه. تحل المباني التجارية محلهم تدريجيا، فتجبر السكان على الانتقال الى احياء سكانيه.
بعد رقيها الى الذروه، يسيء حال مركز المدينة ليتحول الى ما نسميه بداخل المدينه. فيعاد توزيع المركز التجاري والسكاني في مناطق محاذية لها.
واخيرا ، سيهدد التمدد السكاني الحياة الخاصة بالمدن. لو اننا اكثر احتراما لمباديء البيئه، لتمكنا من تحقيق نجاحات اكبر في محاولاتنا لاعادة بناء الحياة السكانية للمدن.
البيئة لا تتضمن فقط العلاقة بيننا وبين الاجواء المحيطه، بل العلاقة فيما بيننا ايضا. اذا اردنا ان نكون على مستوى تحديات البيئة للقرن الواحد العشرين، علينا ان نعاود التفكير بأنظمتنا السياسية والاقتصاديه.
إعداد: د. نبيل خليل