تحايا رمضان
إن بزوغ نور رمضان وإشراقة حلواهُ ، سرور عباد الله المؤمنين وبهجة قلوب المتقين ، سرَّهُم نورهُ ، وأبهجهم حلوله ، وأسرهم فضله وثوابه ، فلا مكان للملهيات في رمضان ولا مقام للأشغال في زمانه . نأت الأعباء والأشغال ، ورحلّت اللذائذ والمُباحات ، وطُوىَ الكسل والرقود .
الأمرُ جدُّ وهو غير مزاحِ فاعمل لنفسِكَ صالحاً يا صاحِ
إن ذوي الألباب يُعظِمون التحايا لرمضان لعلمهم بفضله ، ويفيضون التهاني إليه ، توقيراً لحقه وعرفاناً لزمانه ، إن زمن رمضان أمسى عندهم كنزاً ثميناً ودراً متيناً ، رجَح فضلُه وغلا سعرُه وعزَّ نظيره ، فهل يجوز في حقهم بيعه وإهداره وإضاعته ؟! كلا والله . إنهم يحفظون لرمضان وقاره ، ويعطونه حقه ومقداره ، ولا يرضون إساءته وإضراره ، إنّ تحاياهم لرمضان عظيمة الجناب ، فسيحة الرحاب ، صادقة الودّ والخطاب . إن أعظم تحيّة تُزف لرمضان هي إجلال زمانه وتعظيم موسمه وأيامه ، والبِدار الصادق إلى الأعمال الصالحة بكل همّة وحزن ومجاهدة ، والحرص على استغراق الزمان بالطاعات الفاضلة والطيبات المباركة سالكين النفوس القصد والاعتدال مع التدبير والتنويع .
عن أبي ذرِّ جُندب بن جُنادة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : "الإيمان بالله والجهاد في سبيله" قلت : أيّ الرقاب أفضل قال : "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً" قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : "تُعين صانعاً أو تصنع لأخرق" قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعَفتُ عن بعض العمل ؟ قال : "تكفّ شرّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك" متفق عليه([1]).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل سُلامَي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابّته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة" متفق عليه([2]).
أيها الصائمون : إنّ تحاياكُم لرمضان رُكناها الصدق والجِدّ ، فليست تحية رمضان السرور بمجيئه فحسب ، بل لابد من إيفاء التحية وتزكيتها ، بفيض من الأعمال الصالحة عظيم ، واجتهاد في نيل الحسنات كبير، حينها تصدق التحية ويسمو مضمونها وتعظم بركتها .
وفي هذه الأزمنة تدّعي طوائف كثيرة سرورها وغبطتها بحلول رمضان الخير ، لكنها لا تعقب هذا السرور والابتهاج ، بالمبادرة والاجتهاد في تحصيل الثواب ، فيفرحون به في أوله ثم يعودون إلى سيرتهم الأولى خائضين في اللغو ، عاكفين على اللهو ، ضاربين في الكسل .
يا ليتهم صانوا أنفسهم ثلاثين يوماً وزكّوها أياماً معدودات ، ووطّنوها على كل خير ونفع هذه المدة الوجيزة ، فإن الزمان تتصرم ساعاته ، وتكثر نكباته ، والحركات المكتوبة ، والأعمال محفوظة .
يُروى أن أعرابياً وعَظ ابناً له فقال : "لا الدّهر يعظك ، ولا الأيام تُنذرُك ، والساعات تُعدّ عليك والأنفاس تُعدّ منك ، أحَبُّ أمرِيْك إليك أرَدُّهما بالمضرّة عليك([3])".
أيها الإخوات : من التحايا الحِسان التي يُستحب إذاعتها ونشرها ـ إضافة إلى ما سبق ـ قول المسلم عند رؤية الهلال ، الذكّر الثابت الذي رواه أبو داود والترمذي وابن حبان عن طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : "اللهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربّي وربُّك الله ، هلال رُشدٍ وخير([4]).
ولا بأس أن يبارك المسلمون بعضهم بعضاً بدخول الشهر الكريم ، ويهنئوا الأهل والإخوة والأحبة فإن هذا من محاسن الأخلاق ومن التهاني المباحة ، ولا غضاضة في ذلك ، فإن إدراك رمضان نعمة من الله على العبد ، يضيء محيّاه بها نضرةً وسروراً ، وتذكيره بها أمرٌ حسن ، ثم إن التهنئة هنا مناسبة جداً فهي تعميم للفرح وتذكير بالعمل وتأهيل للنفس وتنبيه للأمّة .
ومنها تجريد النفس من كل العوائق والأشغال ، وتصفيتها مما قد يعكّر عليها راحتها وطمأنينتها حتى تكون مهيّأة تهيئة كاملة لدخول الشهر الكريم ، لكي تعلو الهمّة وتعظُم العزيمة وتشتد الرغبة، فتزيد الحسنات وتكثر الأجور .
ومن التحايا المسارعة في الخير والتسابق في الطاعة ، وهذه من كُبريات التحايا وصادق المودّات ، فما إن يحلّ رمضان ويلمع سناؤُه ويبرق ضياؤه ، إلا والصالحون قد احتشدوا بمعالي الهمم وقوائم العمل وسواعد المبادرة ، قد شفّهم حرّ البين والفراق ، وحبّا للُّقيا والتّلاقِ .
فرمضان أضحى في حياتهم رياضاً فائحة وجِناناً زاهرة ربا فيها النور والسعادة ، فساعة ينعم بحلاوة القرآن ، وأخرى يهنأ بروائع العلم والحديث ، ثم الفقه والحكمة والأدب ، يتخلّلها منافع البر وصنائع المعروف .
وذكّرني حلو الزمان وطيبُهُ مجالس قومٍ يملأون المجالسا حديثاً وقرآناً وفقهاً وحكمة وبراً ومعروفاً وإلفاً مُؤانسا
يا صائمون : إنّ التحايا الصادقة لرمضان مؤشّر العمل والبذل والمنافسة ، فأصدق التحيات ذريعة إلى العمل والسخاء والتضحيات ، وأوفى التهاني آذنةٌ بمزيد الشعور والاهتمام والمحاسبة ، فكل تحية صادقة طريقٌ لهمّةٌ حارقة ونفس جاهدة مثابرة ، وبقدر الصدق والجد والاهتمام ، تبلغ الروح منازل الثواب الأكرم ، والذكر الأدوَم ، والفضل الأحسن والأنعَم .
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعدّ أصدق التحايا وأجملها وأوفرها لرمضان ، مسامرة للقرآن وطول قنوت ودعاء ، واجتهاد واعتكاف ، ومضاعفة الجود والبذل وسائر الأعمال ، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحب الذراع وطويل الباع ، وفي رمضان يصير أجود الأمّة كفاً ، وأنداهم يداً ، كالريح المرسلة ، يُعطي عطاء مَنْ لا يخشى الفقر ، قد هانت عنده الدنيا وحلاوتها وكسدّت زينتها ومتعها، راجٍ ثواب ربّه ، وموقن بخبرِه ووعده . ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ : 39] .
قال ابن كثير رحمه الله : "أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل ، وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث : "قول الله تعالى : أَنفَقْ أُنفِق عليكَ"([5]). والسلف الصالح الكرام اقتفوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم واحتذوا مثاله ، ونحوا فِعالَه ، فجاءت تحاياهم لرمضان ، حاوية الإكبار ، بالغة الخلاص ، راسخة العمل .
ذِكرٌ وإشفاق ، وبرُّ وإنفاق ، وسباق في الخيرات واشتياق ، بلغوا في الخير والمكرمات عنان السماء ومنقطع الهواء ، ليس بينهم والدنيا آصرة قربي ، بل زُلفاهم إلى الآخرة العُقبى ، وهواهم ماضٍ إلى نيل الحُسنى . جعلوا دنياهم سلّماً إلى الآخرة ، ومُناهم تحصيل الدرجات الوافرة .
كانوا بحق أهل الإيمان والهدى والقرآن ، وأرباب العلم والجهاد والإحسان ، في الليل﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ الذاريات : 17- 18 ] ، ونهارهم ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [ الحشر : 8 ] .
أيها الإخوات : يتلقّى المسلم رمضان ، ويحيّيه ببرٍّ وبِشر ، وجدٍّ واجتهاد في الأمر ، مستشعراً قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا جاء رمضان فُتّحَت أبواب الجنّة وغُلّقَت أبواب النار وصُفّدَت الشياطين"([6]).
وحيّا آخرون رمضان بعبوس واشمئزاز وتشاؤم واستنكار ، فساءت أحوالهم وفسدت قلوبهم ، لأن رمضان يقطع عليهم ملذّاتهم ويمنعهم شهواتهم ، إذ أوردوا أنفسهم مشارع البوار وحبسوها في منازع الدمار .
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاًوَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [ طه : 124 – 127 ] . يُروى أن ابناً للخليفة الرشيد كان سفيهاً فاسداً ، قد خلع عِذاره ، وألقى إزاره، لما دخل عليه رمضان تنمّرَ وتذمّر ، وضاق به ذرعاً ، وتنكّر وأنشد يقول :
دعانيَ شهر الصوم لا كان من شهر ولا صُمتُ شهراً بعدهُ آخِرَ الدّهرِ فلو كان يُعديني الأنامُ بقدرةٍ على الشهر لاستعديتُ جهدي على الشهرِ فأخذه داء الصرع فكان يُصرع في كل يومٍ مرات متعددة ، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر([7]).
عياذاً بالله من مسالك الأشرار ، ونسأله سبحانه أن يهدينا لمسالك الأخيار البررة ، إنه أرحم الراحمين ، وأكرم المكرمين تبارك وتعالى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) البخاري (2518) ، ومسلم (84) ، ومعنى الأخرق : الذي لا يتقن ما يحاول فعله.
([2]) البخاري (2707) ، مسلم (1009) ، ومعنى السُّلامَي كما قال أبو عبيد : هي في الأصل عظم يكون في فرسِن البعير قال : فكأن معنى الحديث : على كل عظم من عِظام ابن آدم صدقة . (غريب الحديث : 3/10 ، 11) .
([3]) شذور الأمالي : ص (125) .
([4]) أبو داود (5092) ، والترمذي (3447) ، وابن حبان (2374) .
([5]) تفسير ابن كثير (3/549) . والحديث رواه البخاري (4684) ، ومسلم (993) عن أبي هريرة .
([6]) تفسير ابن كثير (3/549) ، والحديث رواه البخاري (4684) ، ومسلم (993) عن أبي هريرة .
([7]) لطائف المعارف لابن رجب ص (276 – 277) .
|