لقد تعودنا على الاعتقاد بأن قيمة ضغط الدم مستقرة نسبيا. إلا أنها ليست كذلك، إذ إنها تتغير كل مرة نقف فيها، أو نجلس، أو ننحني، أو نأكل، أو نعطس، أو نذهب إلى دورة المياه، أو عند التعرض للتوتر أو الاسترخاء، أو عند حملنا كيسا من البضائع.
والجسم البشري مصمم لمواجهة مثل هذه التغيرات، بحيث يمكنه إعادة قيمة ضغط الدم إلى مستواها الاعتيادي بسرعة. وهذا يتطلب وجود نظام معقد لترجيع المعلومات يضم مجسات استشعار في الشريان الأورطي (الأبهر) وفي الشرايين السباتية التي تصل إلى الدماغ. وتحفز هذه المجسات جملة من الإشارات العصبية والهرمونية التي تعمل على تغيير معدل نبضات القلب، وكمية الدم التي يضخها في كل نبضة، وانقباض جدران الأوعية الدموية وانبساطها. إلا أن بعض الأمراض، وكذلك الهرم في بعض الأحيان، تتداخل مع هذه التعديلات الدقيقة إلى أبعد الحدود، الأمر الذي يسبب انخفاضا مؤقتا في تدفق الدم نحو الدماغ.
وبخلاف غالبية الأنسجة، فإن أنسجة الدماغ لا تختزن الطاقة. وبدلا عن ذلك فإنها تتطلب تجهيزات متواصلة من السكر والأكسجين. ويكفي توقف تدفق الدم لفترة ما بين ثلاث إلى خمس ثوان فقط لإغلاق الدماغ لكل أنشطته، لكي يحافظ على الطاقة. وعندها تتوقف إشارات الدماغ إلى الأعصاب والعضلات، وبذلك يسقط الشخص على الأرض. وما إن يصبح الجسم في وضع أفقي، حتى يصبح من السهل على القلب ضخ الدم إلى الرأس، لـ «يصحو» الدماغ مجددا.
الكثير من الأمور قد تسبب انخفاضا مفاجئا في تدفق الدم نحو الدماغ وتقود إلى الإغماء. ويمكن تصنيف الأسباب في مجموعتين عامتين: الإغماء بسبب مشكلات لا تمت بصلة إلى القلب noncardiac syncope التي تمثل غالبية حالات الإغماء، والإغماء بسبب مشكلات في القلب cardiac syncope.
«أسباب غير قلبية»
إن أغلب أسباب الإغماء لا تتأتى من تشابك الخطوط بين الدماغ وبين أجزاء من الجهاز العصبي (العصب الحائر أو المبهم vagus nerve) الذي ينظم ضغط الدم ومعدل نبضات القلب. واستجابة لبعض المحفزات فإن الأوعية الدموية في الرجلين تسترخي، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة عودة الدم إلى القلب. ويأخذ الدم في التجمع في الرجلين. ويزداد الأمر سوءا عندما يشرع القلب في البطء في عمله بدلا من تنفيذ واجبه بالإسراع فيه. وبهذا «يسقط» ضغط الدم ويسقط الإنسان على الأرض.
والمحفزات يمكن أن تتراوح بين الخوف والألم أو التوتر العاطفي الشديد، إلى سحب الدم من الشخص أو وقوفه لفترة طويلة. والمحفزات الأخرى الأقل شيوعا تشمل: العطاس، الذهاب إلى دورة المياه، رفع الأثقال، حزّ ياقة القميص للرقبة، وحتى العزف على واحدة من آلات العزف الموسيقية النحاسية. وبعض الأشخاص يعانون من حالات إغماء ترتبط بانخفاض ضغط الدم لديهم عند قيامهم من الفراش صباحا أو النهوض من كرسي
وهو «نقص ضغط الدم الانتصابي» postural or orthostatic hypotension أو بعد تناول الطعام المسمى «انخفاض الدم ما بعد الوليمة» postprandial hypotension. ولفهم الحالة الأولى تصور جسمك وكأنه اسطوانة مملوءة بسائل. فعندما تستلقي يتوزع السائل بالتساوي من الرأس حتى أصابع القدم. وعندما تقوم لتقف فإن قوة الجاذبية تسحب الدم إلى الأسفل. وبهذا فإن نحو ربع غالون (946 مليلترا) من الدم يتجمع في الرجلين (أي نحو خمس كل الدم لدى الشخص البالغ)، الأمر الذي يخفض كمية الدم الراجعة إلى القلب. أما نبضات القلب التالية فإنها تقدم كمية أقل من المعتاد من
الدم، ولذا سينخفض ضغط الدم. وكذلك فإن القيام واقفا بعد الجلوس له نفس التأثير. كما أن جفاف الجسم يمكنه أن يسهم في هذا النوع من انخفاض ضغط الدم، بل ويتسبب فيه في بعض الأحيان. ويحدث الأمر نفسه بعد تناول الطعام. فعندما يوجه الجسم كميات أكبر من الدم نحو المعدة والأمعاء لمساعدتها في الهضم، فإن كمية منه أقل تعود إلى القلب، مما يؤدي إلى انخفاض ضغط الدم.
«إغماء القلب»
أما الإغماء الناجم عن مشكلات في القلب فإنه مثير للقلق، أكثر من الإغماء الناجم عن مشكلات في غير القلب. وإيقاع نبضات القلب يعد أكثر الأسباب شيوعا. فقد يدق القلب ببطء شديد في حالة «بطء ضربات القلب» bradycardia لوجود عيب في نظامه الكهربائي أو نتيجة تأثير الأدوية. كما أن القلب قد يدق سريعا في حالة الخفقان tachycardia نتيجة وجود اضطراب الرجفان الأذيني atrial fibrillation أو الخفقان الأذيني ventricular tachycardia. وهذه الحالة الأخيرة خطيرة جدا لأنها تتحول إلى الرجفان البطيني ventricular fibrillation وهو أكثر الأسباب شيوعا لتوقف القلب.
وكل شيء يمنع تدفق الدم عبر الجسم يمكن أيضا أن يقود إلى الإغماء. وقد يكون ذلك صماما في القلب تعرض للضيق أو الانسداد، أو خثرة دموية كبيرة بل وحتى ورم في القلب. والأسباب الأخرى للإغماء الناجم عن القلب تشمل ازدياد حجم القلب بشكل كبير بسبب السماكة الكبيرة لعضلته hypertrophic cardiomyopathy، أو تمزق الشريان الأورطي، أو نوبة قلبية، أو وقوع ضرر في عضلة القلب.
قاوم الإغماء غالبية الناس يمرون ببضع ثوان تحذيرية قبل حدوث الإغماء الوعائي المبهمي vasovagal. ويأخذ وجههم بالشحوب ويشعرون بالدوار، وأحيانا بالغثيان ويفرزون العرق البارد بغزارة. ويمكن استغلال هذه الثواني لوقف الحالة قبل تطورها. فالجلوس أو الاستلقاء يؤديان مهمتهما وكذلك «الجلوس ورأسك متدليا بين ساقيك» كما يقول المثل.
كما يمكن تدريب جسمك لمحاربة الإغماء. وقد كتب الدكتور ديفيد بنديت والدكتور جون نغوين الباحثان في كلية الطب بجامعة مينسوتا في عدد 12 مايو (أيار) من مجلة كلية علوم القلب الأميركية، واصفين أحد التمارين الخاصة بتدريب الميلان. ويشمل التمرين الوقوف وظهرك مستند إلى الحائط بينما يكون كعبا قدميك بعيدين بنحو 6 بوصات (15 سم تقريبا) عن الحائط، لمدة 3 إلى خمس دقائق من دون أي حركة، مرتين في اليوم. وفي كل بضعة أيام أضف دقيقة واحدة إلى تلك المدة حتى تصبح بين 20 إلى 30
دقيقة من دون الشعور باقتراب حالة الإغماء. وبعد ذلك حاول الوقوف بهذا الشكل 20 دقيقة، ثلاث أو أربع مرات في اليوم. ومن الأفضل أن تتدرب في غرفة تكون أرضيتها مكسوة بالسجاد، وبالقرب من أحد أقربائك، كي لا تكون وحدك إن حدث الإغماء.
وإن كنت تريد البقاء يقظا في بعض المواقع التي تعتقد أنك ستكون معرضا فيها للإغماء، مثل حضور ميلاد حفيدك، فعليك اتباع الخطوات التالية:
• تناول نحو لتر من العصائر وكلْ كيسا من رقائق البطاطا المقرمشة، وبذلك فسوف تتجنب جفاف الجسم.
* ضع جوارب خاصة تضغط على إربة الساق وعلى عضلة الفخذ لمنع تجمع الدم في الرجلين.
* استعمل كرسيا مائلا لرفع رجليك قليلا نحو مستوى القلب عندما تتعرض للدوار.
* علامات الإغماء
* يظهر الإغماء عندما يقوم شيء ما بقطع الدم عن الدماغ. ورغم أن الإغماء أمر غير ضار فإنه قد يتسبب في حدوث جروح، وقد يؤشر في بعض الأحيان إلى وجود مشكلة في القلب أو الدورة الدموية.
* إن حصلت لك حالة إغماء، فمن الأفضل استشارة الطبيب خصوصا إن لم يكن هناك أي تفسير لها.
* شدّ العضلات في الرجلين والذراعين يمكن له أحيانا إبعاد شبح الإغماء. كما أن التدريب على الوقوف، أو الوقوف مائلا، يمكنه أن يساعد بعض الأشخاص على تقليل الإشارات المتضادة التي تتسبب في حدوث الإغماء.
* أسباب الإغماء «العميقة»
إن فهم سبب الإغماء هو أفضل وسيلة لدرء وقوعه في المستقبل.
وأهم دليل حاسم هنا هو وصف الشخص لما حدث، خصوصا أن تطابق الوصف مع وصف واحد أو أكثر من شهود الواقعة. فقد يفترض الوصف حدوث حالة من رد الفعل تسمى الإغماء الوعائي المبهمي vasovagal reaction (الإغماء نتيجة الوقوف لفترة طويلة جدا أثناء الحر، أو نتيجة حصوله على حقنة طبية وما شابه)، أو حالة «نقص ضغط الدم الانتصابي» orthostatic hypotension، أو أمر آخر أكثر خطورة. ويجب إخضاع المريض إلى فحص طبي مهما كانت خطورة الحالة أو عدم خطورتها. إن تخطيط القلب الكهربائي، والتخطيط بصدى الموجات الصوتية هي فحوصات حيوية لتقييم أي شخص تعرض للإغماء. ويمكن للتخطيط بصدى الموجات الصوتية رصد المشكلات الخفيّة في البطين الأيسر أو الأشكال الأخرى للأمراض في بنية القلب التي تتسبب في الإغماء. أما تخطيط القلب الكهربائي فبمقدوره الكشف عن اختلال إيقاع نبضات القلب التي قد تسبب الإغماء.
ولسوء الحظ فإن رصد نبضات القلب الخافقة غير المنتظمة هنا يشابه البحث عن إبرة وسط كومة القش كما يقول المثل. وإن كنت قد تعرضت للإغماء عدة مرات من دون أي سبب واضح وكان تخطيط القلب لديك «ممتازا»، فقد يطلب منك الطبيب ارتداء جهاز يسمى «مراقب هولتر» Holter monitor الذي يقوم باستمرار بتسجيل نسق النشاط الكهربائي للقلب لمدة 24 ساعة. أما المراقبة لفترات طويلة فيمكن أن تتم بواسطة مسجل حلقي يلبس فوق الجسم، أو يزرع في داخله. وتراقب هذه الأجهزة معدل نبضات القلب باستمرار، إلا أنها لا تختزن معلومات عنه إلا في فترة البضع دقائق الأخيرة منها. فعندما تشعر بقدوم حالة الإغماء، عليك أن تضغط زرا في الجهاز لكي يتم «تجميد» المعلومات داخله.
وهناك فحص آخر هو فحص الميلان، الذي يتم فيه قياس ضغط الدم ومعدل نبضات القلب، أولا عند الاستلقاء منبطحا على طاولة متحركة، ثم عندما تتم إمالة الطاولة بحيث يكون جسمك في حالة القيام وانتصاب القامة تقريبا.
* خطوات لتجنب الإغماء
إن شعرت بأنك مصاب بالدوار أو بأنك مقبل على الإغماء حاول أن تضع رجلا على أخرى وأن تشد العضلات في الجزء الأسفل من الجسم، أو تجعل عضلات الذراعين منقبضة بأن تشد قبضتي يديك وتسحبهما نحوك. وكل من هذه الخطوات يمكنها أن تزيد من ضغط الدم. وقد تكون كافية لوقف حالة الإغماء قبل أن تحدث، أو أن تسمح لك بأن تستلقي على الفراش أو التحرك نحو موقع آمن
موضوع مفيد جدا
جزاك الله خيرا
دمت بود