د. عائض القرني
من رحمة الله بنا نحن البشر أن الله لن يجعل مفاتيح الجنة في جيوبنا، ولو حصل هذا كان بعضنا منع البعض الآخر من دخول الجنة، وكان كل من اختلف مع شخص طرده من الجنة، وكل طائفة أو جماعة تغلق أبواب الجنة في وجوه الجماعات والطوائف الأخرى؛ لأن البشر في الغالب أهل بخل وشح وحقد وحسد كما قال تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا»،
وانظر إلينا في الدنيا الفانية الحقيرة القصيرة قد تقاتلنا وتشاتمنا، فكيف لو سُلمت لنا مفاتيح الجنة؟ فترى البعض منا قد افتتح دكانا؛ لتكفير الناس وتبديعهم وتضليلهم، ثم أقسم أنهم لن يدخلوا الجنة، والبعض قد نصب مشانق لعباد الله يجلدهم صباح مساء، فهم عنده آثمون مذنبون مرتدون زنادقة، والبعض قد أقام محاكم تفتيش لعباد الله يحاكم نياتهم وضمائرهم ويفحص سيرتهم وينقب في أخبارهم وينشر غسيلهم، ونسي المسكين نفسه المدنسة بالذنوب الملطخة بالعيوب، والبعض ادعى العصمة له ولطائفته وجماعته فلا يدخل الجنة إلا هم، والصحيح أن أهل الجنة هم من حقق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وذكرنا هذا بقصة أبي حمزة الخارجي، فإنه لما حج هو وتلميذه وقف عند الصفا وقال لتلميذه: كل هؤلاء الحجاج في النار، ولن يدخلها من الأحياء إلا أنا وأنت. فقال له تلميذه، وكان ذكيا: سبحان الله.. جنة عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنا وأنت؟! إذاً هذه ليست جنة الله التي وعد عباده، ولن أدخلها أنا، فهي لك وحدك؛ لأن جنة الله عرضها السموات والأرض، ولها أبواب ثمانية، سعة الباب من صنعاء إلى بيت المقدس، ويأتي عليه يوم وهو شديد الزحام، فكيف لا يدخلها إلا اثنان؟.
وكلما رأيت العدوانية والكراهية من أبناء البشر وطالعت الأحكام الجائرة من الناس على من اختلفوا معه، حمدت الله أن أمر الرحمة والجنة والتوبة والمغفرة إلى الله وحده. إن الحسدة والحقدة وضعاف الأنفس ومرضى القلوب لو كان إنزال الغيث بأيديهم لما أنزلوه إلا على مزارعهم وديارهم فحسب؛ لأنهم ضاقوا بأنفسهم وبالناس، فهم لا يرون إلا بعيونهم ولا يفهمون إلا بعقولهم الضيقة، فإذا كان الدليل يسعفهم والبرهان يساعدهم فهو صحيح ثابت، وإذا كان ضدهم فهو باطل منسوخ، فإذا أحبوا شخصا كذبوا في مدحه وأجلسوه على النجوم، وإذا أبغضوا شخصا كذبوا في سبه ودفنوا محاسنه. إن غالب البشر أعداء للحقيقة، ولهذا تجاهلوا حق الخالق سبحانه وأعرضوا عن الحجج الساطعة في الأنفس والآفاق وفي الكتب والرسالات، حتى قال خالقهم ورازقهم عز وجل: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا».
وانظر إلى فئات المجتمع كيف يتراشقون بالتهم ويتنابزون بالألقاب، فالمتساهلون في اتباع السنّة يرون كل ملتحٍ متدين ملتزم متشددا غاليا في الدين، متطرفا خارجيا فظا غليظا، ويرى المتشددون أن المتساهلين في السنّة من المسلمين زنادقة وفجرة ومستغربون ومرتزقة. والمفروض أن نجتمع على الإسلام ونعمر الأرض ونبني الفضائل وننتج ونبدع ونخترع ونكتشف، ولكننا صرفنا جهودنا في التطاحن والتشاحن والتفاضح والتقابح، ونسينا التسامح والتصالح،
قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»،
وقال تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا»،
وانظر الآن إلى الخارطة من طنجة إلى جاكرتا فلا تجد إلا الثورات والانقلابات والقتلى والأشلاء والدماء في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان والصومال، بل أكثر العمليات الانتحارية والتفجيرات والمجاعات والأحزاب والجماعات والرايات واللافتات في بلاد الإسلام؛ لأن الكثير لما جهل دينه الصحيح وترك الاعتصام بحبل الله أطاع شيطانه ونفسه الأمارة وهواه الغالب، وإلا قولوا لي بالله عليكم، أما أسس أجدادنا أروع حضارة عرفتها البشرية وقدموا أجمل رسالة استقبلتها الإنسانية؟ لما اعتصموا بحبل الله واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وآخر من اعترف بها من الكبار الرئيس باراك أوباما الذي انحنى إجلالا لعظمة الإسلام.
أيها الناس، ارحموا الناس، وتشاغلوا بإصلاح أنفسكم وتطهير ضمائركم وغسل قلوبكم، وتعالوا نعيد للإسلام مجده ونقدم للعالم رسالة عادلة معتدلة حضارية تليق بديننا العظيم.