تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » مسائل على الضرب بالدف

مسائل على الضرب بالدف 2024.

دار دار
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

المَسْألَةُ الأُولَى : تَعْرِيفُ الدُّفِّ لُغَةً، وشَرْعًا .

لا شَكَّ أنَّ الدُّفَّ بِضَمِ الدَّالِ : «هُوَ مَا تَضْرِبُ بِهِ النِّسَاءُ»، سَواءٌ كَانَ بوَجْهٍ أو وَجْهَيْنِ
وقَدْ قِيْلَ : الدُّفُّ مَا كَانَ بوَجْهٍ وَاحِدٍ،
والطَّبْلُ : مَا كَانَ بَوَجْهٍ أو وَجْهَيْنِ

وأيًّا كَانَ الأمْرُ، فَهَذَا الحَدُّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلدُّفِّ
لَمْ يَخْرُجْ عَنِ التَّعْرِيفِ الشَّرْعِيِّ أوِ اللُّغَوِيِّ فِي الجُمْلَةِ،
ولا أعْلَمُ فِي هَذَا خِلافًا بَيْنَهُمْ .

المَسْألَةُ الثَّانِيَةُ : حَقِيقَةُ الدُّفِّ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ .
لا شَكَّ أنَّ حَقِيْقَةَ الدُّفِّ : هُوَ آلَةٌ مِنْ آلاتِ المَلاهِي مُدَوَّرٌ مِنْ جِلْدٍ، لا خُرُوقَ فِيْهِ ولا جَلَاجِلَ، ومَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ بِلا خِلافٍ عِنْدِ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله في «الفَتْحِ» (2/440)
عَنْ حَقِيْقَةِ الدُّفِّ :
«هُوَ الكِرْبَالُ بِكَسْرِ الكَافِ، وهُوَ الَّذِي لا جَلاجِلَ فِيهِ، فَإنْ كَانَتْ فِيْهِ فَهُوَ المِزْهَرُ».
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ الله في «نَيْلِ الأوْطَارِ»
(6/337) :
«قَالَ الإمَامُ يَحْيَى : دُفُّ المَلاهِي مُدَوَّرٌ جِلْدُهُ مِنْ رِقٍّ أبْيَضَ نَاعِمٍ، فِي عَرْضِهِ سَلاسِلُ يُسَمَّى : الطَّارُ لَهُ صَوْتٌ يُطْرِبُ لِحَلاوَةِ نَغْمَتِهِ، وهَذَا لا إشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ وتَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ .

وَأمَّا دُفُّ العَرَبِ : فَهُوَ عَلَى شَكْلِ الغِرْبَالِ؛ خَلا أنَّهُ لا خُرُوقَ فِيهِ، وطُولُهُ إلَى أرْبَعَةِ أشْبَارٍ فَهُوَ الَّذِي أرَادَهُ
صلى الله عليه وسلم ، لأنَّهُ المَعْهُودُ حِينَئِذٍ» .

وَقَالَ المُبَارْكَفُورِيُّ رَحِمَهُ الله «تُحْفَةِ الأحْوَذِيِّ»
(10/122) مُؤَكِّدًا حَقِيْقَةَ الدُّفِّ :
«الدُّفُّ هُوَ مَا يُطَبَّلُُ بِهِ، والمُرَادُ بِهِ الدُّفُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ المُتَقَدِّمِينَ، وأمَّا مَا فِيْهِ الجَلاجِلُ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا اتِّفَاقًا» انْتَهَى

وَعَلَيْهِ فَكُلُّ دُفٍّ أوْ طَارٍ فِيْهِ جَلاجِلُ أوْ سَلاسِلُ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ لِلنِّسَاءِ، أوْ غَيْرِهِنَّ .
المَسْألَةُ الثَّالِثَةُ : الأصْلُ فِي حُكْمِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ :

لا بد أنْ نَذْكُرَ أمْرَيْنِ هُمَا مِنَ الأهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ :
الأمْرُ الأوَّلُ : أنَّ الدُّفَّ فِي أصْلِهِ مِنْ آلاتِ المَعَازِفِ واللَّهْوِ والطَّرَبِ … وإلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا، كَمَا جَاءَ هَذَا عَنْهُم صَرِيْحًا عِنْدَ تَعْرِيْفِهِم للمَعَازِفِ في حَدِيْثِ الاسْتِحْلالِ وغَيْرِهِ .

لِذَا فَقَدْ عَرَّفَ أهْلُ العِلْمِ المَعَازِفَ :
بأنَّهَا جَمِيْعُ آلاتِ اللَّهْوِ :
كَالعُودِ والطُّنْبُورِ، والطَّبْلِ، والدُّفِّ، والأوْتَارِ، والمَزَامِيرِ، والطُّنْبُورِ، والشَّبَّابَةِ، والصُّنُوجِ، وغَيْرِهَا مِنْ آلاتِ الطَّرَبِ الحَدِيْثَةِ كالقَانُوْنِ، والكَمَنْجَةِ، والأوْردْ، والبِيَانُو، والقِيْثَارَةِ، والدَّرَبَكَّةِ، والرَّبَابَةِ، والسِّمْسِمِيَّةِ …
وإلى هَذَا ذَهَبَ جَمَاهِيرُ أهْلِ العِلمِ كَافَّةً مِنَ اللُّغَوِيِّينَ والفُقَهَاءِ، والمُحَدِّثِينَ، والأُصُولِيِّينَ وغَيْرِهِمْ، كَالجَوْهَرِيِّ، وابْنِ فَارِسٍ، والفَيْرُوزِ آبَادِي، والفَيُّومِيِّ، وابْنِ الأثِيرِ، والنَّوَوِيِّ .
وَكَذَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وابْنُ القَيِّمِ، والذَّهَبِيُّ، وابنُ كَثِيْرٍ،
وكَذَا ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ، والشَّوْكَانِيُّ، والسُّيُوطِيُّ، والمُنَاوِيُّ، والمَبَارْكَفُورِيُّ، والسِّنَدِيُّ، وابْنُ رَسْلَانَ وغَيْرُهُمْ جَمْعٌ لا يُحْصَوْنَ .
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله فِي
«مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (11/535) :
«وَالمَعَازِفُ : هِيَ المَلاهِي آلاتُ اللَّهْوِ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ، وهَذَا اسْمٌ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الآلاتِ كُلَّهَا».
وَمِمَّنْ صَرَّحَ وعَرَّفَ المَعَازِفَ :
«بِالدُّفُوفِ وغَيْرِهَا مِمَّا يُضْرَبُ بِهِ»،
الفَرَاهِيدِيُّ، وابْنُ مَنْظُورٍ، وابْنُ الأثِيرِ، والمُنَاوِيُّ، والمُبَارْكَفُورِيُّ وغَيْرُهُمْ .

قَالَ ابْنُ الأثِيرِ رَحِمَهُ الله فِي «النِّهَايَةِ» (3/230) : «المَعَازِفُ : وهِيَ الدُّفُوفُ وغَيْرُهَا مِمَّا يُضْرَبُ بِهِ»
وغَيْرُهُم كَثِيرٌ جِدًّا، ومِنْ خِلالِ هَذَا التَّعْرِيْفِ للمَعَازِفِ

فَقَدِ اسْتَبَانَ لَنَا مَا يَلي .
الأمْرُ الثَّانِي : أنَّ الدُّفَّ مُحَرَّمٌ فِي الأصْلِ، لِكَوْنِهِ مِنْ آلاتِ المَعَازِفِ الَّتِي جَاءَتِ السُّنَّةُ بِتَحْرِيمِهَا تَحْرِيْمًا قَطْعِيًّا،
وقَدْ نَقَلَ الإجْمَاعَ على تَحْرِيْمِ المَعَازِفِ
أكْثَرَ مِنْ ثَلاثِيْنَ عَالِمًا .
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ، والآثَارُ الصَّحِيحَةُ بِتَحْرِيمِ الدُّفِّ مُفْرَدًا، ومِنْ ذَلِكَ :
الأوَّلُ : مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ أبِي عَامِرٍ الأشْعَرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، والحَرِيرَ، والخَمْرَ، والمَعَازِفَ» الحَدِيْثَ .
الثَّانِي : وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله
صلى الله عليه وسلم :
«يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَذْفٌ ومَسْخٌ وخَسْفٌ، قِيلَ : يَا رَسُولَ الله ومَتَى ذَاكَ؟ قَالَ : إذَا ظَهَرَتِ المَعَازِفُ وكَثُرَتِ القِيَانُ وشُرِبَتِ الخُمُورُ»،
أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (4/495)، وابْنُ أبِي الدُّنْيَا في «ذَمِّ المَلاهِي» (24)، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ (7/501)،
والحَدِيثُ حَسَنٌ
والقِيَانُ : جَمْعُ قَيْنَةٍ : وهِيَ المُغَنِّيَةُ مِنَ الإمَاءِ .

الثَّالِثُ : وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قِرَدَةً وخَنَازِيرَ»
قَالُوا : يَا رَسُولَ الله ألَيْسَ يَشْهَدُونَ أنْ لا إلَهَ إلا الله وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله؟ قَالَ :
«بَلَى ويَصُومُونَ ويُصَلُّونَ ويَحُجُّونَ»، قَالُوا: فَمَا بَالُهُمْ؟ قَالَ : «اتَّخَذُوا المَعَازِفَ والدُّفُوفَ والقَيْنَاتِ، فَبَاتُوا عَلَى شُرْبِهِمْ ولَهْوِهِمْ، فَأصْبَحُوا وقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وخَنَازِيرَ»،
أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي الدُّنْيَا في «ذَمِّ المَلاهِي» 29وأبُو نُعَيْمٍ «الحِليَةِ» (3/119)، وهُوَ حديث حسن.
وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ المَعَازِفَ فِي هَذَا الحَدِيثِ وغَيْرِهِ :
هِيَ آلاتُ اللَّهْوِ والطَّرَبِ كَالعُودِ، والدُّفِّ، وغَيْرِهِمَا .
الرَّابِعُ : وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ :
«إنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الخَمْرَ، والمَيْسِرَ، والكُوبَةَ»،
أخْرَجَهُ أحْمَدُ (4/381)، والطَّحَاوِيُّ في «شَرْحِ الآثَارِ» (4/216)، والبَيْهَقِيُّ في «السُّنَنِ الكُبْرَى»
(10/213) وغَيْرُهُمْ، وهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
الخَامِسُ : وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، أنَّ نَبِيَّ الله
صلى الله عليه وسلم :
«نَهَى عَنِ الخَمْرِ، والمَيْسِرِ، والكُوبَةِ، والغُبَيْرَاءِ»
وقَالَ : «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»
أخْرَجَهُ أحْمَدُ، وأبُو دَاوُدَ، وهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
السَّادِسُ : وعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، وكَانَ صَاحِبَ رَايَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رَسُولَ الله
صلى الله عليه وسلم قَالَ :
«إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ الخَمْرَ، والمَيْسِرَ، والكُوبَةَ، والغُبَيْرَاءَ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»
أخْرَجَهُ أحْمَدُ، وأبُو دَاوُدَ وغَيْرُهُمَا، وهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .

وَقَدْ جَاءَ مَعْنَى الكُوبَةِ بِالطَّبْلِ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ المُتَقَدِّمِ،
وفِيهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لِعَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ :
مَا الكُوبَةُ؟ قَالَ : الطَّبْلُ .

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ رَحِمَهُ الله فِي «المُغْنِي» (7/63)،
أنَّ الإمَامَ (أحْمَدَ) قَالَ :
«وَأكْرَهُ الطَّبْلَ، وهُوَ المُنْكَرُ، وهُوَ الكُوبَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ»،

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ فِي «المَعَالِمِ» (5/268) :
«هِيَ الطَّبْلُ، ويَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ : كُلُّ وتَرٍ ومِزْهَرٍ ونَحْوُ ذَلِكَ مِنَ المَلاهِي والغِنَاءِ» انْتَهَى .

ومِنْهُ نَعْلَمُ أنَّ الخِلافَ فِي حُكْمِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الأصْلِ فِي حُكْمِهَا :
وهُوَ التَّحْرِيمُ، هَذَا أوَّلاً .
أمَّا ثَانِيًا : فَإنَّنَا نَحْتَاجُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ إبَاحَةِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ إلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ سَالِمٍ مِنَ المُعَارِضِ
لأنَّ الأصْلَ فِي ضَرْبِ الدُّفُوْفِ هُوَ التَّحْرِيمُ
وعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ لَنَا المَسْألَةُ الآتِيَةُ .

المَسْألَةُ الرَّابِعَةُ : حُكْمُ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ .
وَمِنْ خِلالِ بَيَانِ أنَّ الأصْلَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ هُوَ التَّحْرِيمُ، نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِمْ عَلَى الضَّرْبِ بِالدُّفِّ على ثَلاثَةِ أقْوَالٍ :
طَرَفَيْنِ ووَسَطٍ
الطَّرَفُ الأوَّلُ : مَنْ أبَاحَ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مُطْلقًا للرِّجَالِ وللنِّسَاءِ بِمُنَاسَبَةٍ كَانَ أو غَيْرِهَا،
وبِهِ قَالَ ابنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ في «المُحَلَّى» (9/62)،
وأبو بَكْرٍ ابنِ العَربيِّ المَالِكيُّ
(543) في «أحْكَامِ القُرْآنِ» (3/1025)،
وابنُ القَيْسَرَانيِّ في «السَّمَاعِ» (51)
، ولا يُعْلَمُ لهَذَا القَوْلِ سَلَفٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِيْنَ، وقَدْ رَدَّ عَلَيْهِم أهْلُ العِلْمِ المُحَقِّقُوْنَ بِمَا جَاء في السُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ، كَمَا سَيَأتي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ الله.
الطَّرَفُ الثَّاني : مَنْ حَرَّمَ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مُطْلقًا بِمُنَاسَبَةٍ كَانَ أو غَيْرِهَا، وهَذَا القَوْلُ مَهْجُوْرٌ؛ لأنَّ فِيْهِ مُخَالَفَةً صَرِيْحَةً
لمَا ثَبَتَ في السُّنَّةِ الصَّحِيْحَةِ .
وهَذَانِ القَوْلانِ : هُمَا طَرَفَا نَقِيْضٍ مَا بَيْنَ تَفْرِيْطٍ وإفْرَاطٍ .
أمَّا القَوْلُ الوَسَطُ : وهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاهِيْرُ أهْلِ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيْحَةُ، قَوْلاً وتَقْرِيْرًا، وذَلِكَ على قَاعِدَةِ التَّفْصِيْلِ عِنْدَهُم بَيْنَ مَا أبَاحَتْهُ الشَّرِيْعَةُ
في بَعْضِ المُنَاسَبَاتِ فَقَطُ، وتَحْرِيْمِ مَا سِوَاهَا،
لِذَا كَانَ الأخْذُ بالتَّفْصِيْلِ هُوَ جَادَّةُ أهْلِ العِلْمِ المُحَقِّقِيْنَ، وذَلِكَ بتَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ، إلاَّ فِيمَا أجَازَتْهُ الشَّرِيعَةُ، وثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ للنِّسَاءِ خَاصَّةً،
وفي أوقات مخصوصة.
وقَدْ تَحَصَّلَ لِي مِنَ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ للنِّسَاءِ أربع صُوَرٍ لا غَيْرَ : في العِيدِ، والعُرْسِ، وعِنْدَ قُدُوْمِ غَائِبٍ، والوَفَاءِ بِالنَّذْرِ .
الصُّورَةُ الأُولَى : الضَّرْبُ بِالدُّفِّ فِي أيَّامِ العِيدِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا فِي قِصَّةِ القَيْنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فِي يَوْمِ العِيدِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : الضَّرْبُ بِالدُّفِّ فِي العُرْسِ، كَمَا جَاءَ فِي البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ،
وفِيهِ : فَجَعَلَتْ جُوَيْرَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ ويَنْدُبْنَ مَنْ قَتَلَ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ»
وحَدِيثِ :
«فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَرَامِ والحَلالِ الدُّفُّ والصَّوْتُ»
أخْرَجَهُ أحْمَدُ (3/418)، والتِّرْمِذِيُّ (3/317)،
وهُوَ حَسَنٌ
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : الضَّرْبُ بِالدُّفِّ عِنْدَ قُدُومِ غَائِبٍ، وذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَقْبَلَتْهُ سُودَانُ المَدِينَةِ يَزْفِنُونَ، ويَقُولُونَ : «جَاءَ مُحَمَّدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ» .

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ عِنْدَمَا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَتْهُ جَوَارٍ يَقُلْنَ :

نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارٍ

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ : الضَّرْبُ بِالدُّفِّ بِالنَّذْرِ وذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ : رَجَعَ رَسُولُ الله
صلى الله عليه وسلم
مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ الله: إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إنْ رَدَّكَ الله سَالِمًا أنْ أضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ،
فَقَالَ : «إنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَافْعَلِي، وإلاَّ فَلا»
قَالَتْ : إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ قَالَ : فَقَعَدَ رَسُولُ الله
صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَتْ بِالدُّفِّ»
أخْرَجَهُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ، وهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .

وَبَعْدَ ذِكْرِنَا لِهَذِهِ الأدِلَّةِ فِي جَوَازِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ فِيْهَا ذَهَبَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ والأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْعِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ إلاَّ فِيمَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ، عَلَى خِلافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ المَذْكُورَةِ آنِفًا، وهَذَا مِنْهُمْ أشْبَهُ بِالإجْمَاعِ فِي الجُمْلَةِ .
وَلا أعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا إلاَّ مَا كَانَ مِنِ ابْنِ حَزْمٍ
وابْنِ العَرَبِيِّ، وابْنِ القَيْسَرَانِيِّ
حَيْثُ أبَاحُوا الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مُطْلَقًا، ولا أعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إلاَّ اعْتِمَادَهُمْ عَلَى مُطْلَقِ الأحَادِيثِ
وهَذَا مَرْدُودٌ بِمَا ثَبَتَ أنَّ الأصْلَ فِي الضَّرْبِ بِالدُّفِّ التَّحْرِيمُ، إلاَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ .
المَسْألَةُ الخَامِسَةُ : تَحْرِيمُ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ الَّذِي فِيْهِ جَلاجِلُ أوْ سَلاسِلُ .
لا شَكَّ أنَّ حَقِيْقَةَ الدُّفِّ المُخْتَلَفِ فِي حُكْمِهِ :
هُوَ آلَةٌ مِنْ آلاتِ المَلاهِي مُدَوَّرٌ مِنْ جِلْدٍ، لا خُرُوقَ فِيْهِ ولا جَلاجِلَ، ومَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ بِلا خِلافٍ عِنْدَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ والأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْعِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ ذِي الجَلاجِلِ أوِ السَّلاسِلِ .
وَلا أعْلَمُ لَهُمْ أيْضًا مُخَالِفًا إلاَّ مِنِ ابْنِ حَزْمٍ، وابْنِ العَرَبِيِّ، وابْنِ القَيْسَرَانِيِّ؛ حَيْثُ أبَاحُوا الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مُطْلَقًا سَوَاءً كَانَ بِجَلاجِلَ أوْ لا، وهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْ مِنَ الدُّفِّ إلاَّ مَا كَانَ خُلْوًا مِنَ الجَلاجِلِ والسَّلاسِلِ، ومِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَزِيدُ فِي الطَّرَبِ والتَّصْوِيتِ، ومَرْدُودٌ أيْضًا بِمَا قَالَهُ أهْلُ العِلْمِ كَافَّةً فِي المَنْعِ مِنْ دُفِّ الجَلاجِلِ ونَحْوِهِ كَمَا يلي .
وَفِي «المُبْدِعِ» لابْنِ مُفْلِحٍ،
أنَّهُ قِيلَ لِلإمَامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ الله :
«مَا الدُّفُّ؟ قَالَ : هَذَا الدُّفُّ، قِيلَ لَهُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرٍ : يَكُونُ فِيْهِ جَرَسٌ؟ قَالَ : لا» .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله في «الفَتْحِ» عَنْ حَقِيْقَةِ الدُّفِّ : «هُوَ الكِرْبَالُ بِكَسْرِ الكَافِ، وهُوَ الَّذِي لا جَلاجِلَ فِيهِ، فَإنْ كَانَتْ فِيْهِ فَهُوَ المِزْهَرُ»

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ رَحِمَهُ الله «نَيْلِ الأوْطَارِ» :
«قَالَ الإمَامُ يَحْيَى : دُفُّ المَلاهِي مُدَوَّرٌ جِلْدُهُ مِنْ رِقٍّ أبْيَضَ نَاعِمٍ فِي عَرْضِهِ سَلاسِلُ يُسَمَّى : الطَّارُ لَهُ صَوْتٌ يُطْرِبُ لِحَلاوَةِ نَغْمَتِهِ، وهَذَا لا إشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ وتَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ .

وَأمَّا دُفُّ العَرَبِ : فَهُوَ عَلَى شَكْلِ الغِرْبَالِ؛ خَلا أنَّهُ لا خُرُوقَ فِيهِ ، وطُولُهُ إلَى أرْبَعَةِ أشْبَارٍ، فَهُوَ الَّذِي أرَادَهُ
صلى الله عليه وسلم ، لأنَّهُ المَعْهُودُ حِينَئِذٍ» .

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ في «شَرْحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ» (136) :
«وَكَانَ دُفُّهُنَّ غَيْرَ مَصْحُوبٍ بِجَلاجِلَ، وأمَّا مَا فِيْهِ جَلاجِلُ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا بِالاتِّفَاقِ» .
وَقَالَ المُبَارْكَفُورِيُّ رَحِمَهُ الله «تُحْفَةِ الأحْوَذِيِّ»
مُؤَكِّدًا حَقِيْقَةَ الدُّفِّ :
«الدُّفُّ هُوَ مَا يُطَبَّلُ بِهِ، والمُرَادُ بِهِ الدُّفُّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ المُتَقَدِّمِينَ، وأمَّا مَا فِيْهِ الجَلاجِلُ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا اتِّفاقًا» انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِيُّ «كَفِّ الرَّعَاعِ» (1/77) :
«وَفِي كَافِي الخَوَارِزْمِيِّ»:
والدُّفُّ فِيْهِ جَلاجِلُ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الأحْوَالِ والمَوَاضِعِ»،
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ «مَوَاهِبِ الجَلِيلِ» (4/7) :
«قَالَ القُرْطُبِيُّ : لَمَّا اسْتُثْنِيَ الدُّفُّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ المَوَاضِعِ، ولا يَلْحَقُ بِذَلِكَ الطَّارَاتُ ذَاتُ الصَّلاصِلِ والجَلاجِلِ لِمَا فِيْهَا مِنْ زِيَادَةِ الإطْرَابِ» .

وهُنَا أقْوَالُ كَثِيرٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ دَالَّةٌ; بَلْ قَاطِعَةٌ بِتَحْرِيمِ الدُّفِّ ذِي الجَلاجِلِ والسَّلاسِلِ، وكُلُّ مَا فِيْهِ زِيَادَةُ إطْرَابٍ،
وَعَلَيْهِ؛ فَكُلُّ دُفٍّ أوْ طَارٍ فِيْهِ جَلاجِلُ أوْ سَلاسِلُ أوْ فِيْهِ مَا

يَزِيدُ الإطْرَابَ : فَهُوَ مُحَرَّمٌ لا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ بِحَالٍ، سَوَاءً كَانَ لِلنِّسَاءِ أوْ غَيْرِهِنَّ .

المَسْألَةُ السَّادِسَةُ : الضَّرْبُ بِالدُّفِّ لِلرِّجَالِ .
لَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ والأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ وغَيْرِهِمْ عَلَى مَنْعِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ لِلرِّجَالِ، وهَذَا مِنْهُمْ أشْبَهُ بِالإجْمَاعِ .
وَلا أعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا إلاَّ مَا كَانَ مِنِ ابْنِ حَزْمٍ، وابْنِ القَيْسَرَانِيِّ، والسُّبْكِيِّ؛ حَيْثُ أبَاحُوا الضَّرْبَ بِالدُّفِّ لِلنِّسَاءِ والرِّجَالِ، ولَيْسَ لَهُم فِيْمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إلاَّ اعْتِمَادَهُمْ عَلَى حَدِيثٍ ضَعِيفٍ بِالمَرَّةِ .
وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم :

«… واضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ …»
فَقَالُوا : عُمُومُ هَذَا الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِ الذُّكُورِ والإنَاثِ!
وَأجَابَ الجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ : بِأنَّ الحَدِيثَ لا يَصِحُّ بِالمَرَّةِ، وأنَّ الأصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وهُوَ ضَرْبُ الدُّفِّ لِلنِّسَاءِ فَقَطْ، كَمَا ورَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وهَذَا مَا قَالَهُ عَامَّةُ أهْلِ العِلْمِ سَلَفًا وخَلَفًا .
قُلْتُ : فأمَّا الحَدِيثُ الَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ، وهَوُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم :
«أعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ واجْعَلُوهُ فِي المَسَاجِدِ، واضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ»
فَقَدْ أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (1089)،
والبَيْهَقِيُّ في «السُّنَنِ الكُبْرَى» 14476)،
فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِلاتِّفَاقِ عَلَى تَضْعِيفِ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، وحَدِيثُهُ لا يُتَابَعُ، وحَدِيثُهُ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مُنْكَرٌ، وهَذَا مِنْهُ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله «الفَتْحِ» (9/226) :
«وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ : «وَاضْرِبُوا» عَلَى أنَّ ذَلِكَ لا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، والأحَادِيثُ القَوِيَّةُ فِيْهَا الإذْنُ لِلنِّسَاءِ، فَلا يَلْتَحِقُ بِهِنَّ الرِّجَالُ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِنَّ» انْتَهَى .

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله فِي «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى»
(11/565) :
«وَبِالجُمْلَةِ قَدْ عُرِفَ بِالاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الإسْلامِ :
أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
لَمْ يَشْرَعْ لِصَالِحِي أُمَّتِهِ وعُبَّادِهِمْ وزُهَّادِهِمْ أنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الأبْيَاتِ المُلَحَّنَةِ مَعَ ضَرْبٍ بِالكَفِّ أوْ ضَرْبٍ بِالقَضِيبِ أوِ الدُّفِّ …
وأمَّا الرِّجَالُ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنْهُمْ يَضْرِبُ بِدُفٍّ، ولَا يُصَفِّقُ بِكَفٍّ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أنَّهُ قَالَ : «التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ والتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ»،
«وَلَعَنَ المُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، والمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ» .
وَلَمَّا كَانَ الغِنَاءُ والضَّرْبُ بِالدُّفِّ والكَفِّ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الرِّجَالِ مُخَنَّثًا، ويُسَمُّونَ الرِّجَالَ المُغَنِّينَ مَخَانِيثَ، وهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلامِهِمْ» انْتَهَى .

وقَالَ المَنْبَجِيُّ الحَنْبَليُّ في رِسَالَتِهِ «السَّمَاعِ والرَّقْصِ» (29) نَقْلاً مِنْهُ عَنِ ابنِ تَيْمِيَّةَ :
«وإذَا عُرِفَ هَذَا فاعْلَمْ أنَّهُ لم يَكُنْ في القُرُوْنِ الثَّلاثَةِ المُفَضَّلَةِ لا بالحِجَازِ ولا بالشَّامِ ولا بِمِصْرَ والمَغْرِبِ والعِرَاقِ وخُرَسَانَ مِنْ أهْلِ الدِّيْنِ والصَّلاحِ والزُّهْدِ والعِبَادَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ على مِثْلِ سَمَاعِ المُكَاءِ والتَّصْدِيَةِ لا بدُفٍّ ولا بكَفٍّ، ولا بقَضِيْبٍ، وإنَّمَا حَدَثَ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ في أوَاخِرِ المائَةِ الثَّانِيَةِ، فلَّمَا رَآهُ الأئِمَّةُ أنْكَرُوْهُ» انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله فِي

«الكَلامِ عَلَى مَسْألَةِ السَّمَاعِ» (310) :
«وَأصْحَابُهُ صلى الله عليه وسلم جَلَّتْ رُتْبَتُهُمْ أنْ يَسْمَعُوهُ ـ الغِنَاءَ ـ بِنُفُوسِهِمْ أوْ لأجْلِ حُظُوظِهِمْ، هَذَا وكَمْ بَيْنَ المَزْمُورَيْنِ فَبَيْنَهُمَا أبْعَدُ مَا بَيْنَ المَشْرِقَيْنِ، ثُمَّ نَحْنُ نُرَخِّصُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أنْوَاعِ الغِنَاءِ مِثْلِ هَذَا، ومِثْلِ الغِنَاءِ فِي النِّكَاحِ لِلنِّسَاءِ والصِّبْيَانِ، إذَا خَلا مِنَ الآلاتِ المُحَرَّمَةِ، كَمَا نُرَخِّصُ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ اللَّهْوِ واللَّعِبِ، وهَذَا نَوْعٌ مِنْ أنْوَاعِ اللَّعِبِ المُبَاحِ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الأوْقَاتِ …
وإنْ كَانَ رُخِّصَ فِيْهِ لِهَؤُلاءِ الضُّعَفَاءِ العُقُولِ مِنَ النِّسَاءِ والصِّبْيَانِ لِئَلا يَدْعُوهُمُ الشَّيْطَانُ إلَى مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ; إذْ لا يُمْكِنُ صَرْفُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا تَتَقَاضَاهُ الطِّبَاعُ مِنَ البَاطِلِ، والشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ المَصَالِحِ وتَكْمِيلِهَا وتَعْطِيلِ المَفَاسِدِ وتَقْلِيلِهَا;
فَهِيَ تُحَصِّلُ أعْظَمَ المَصْلَحَتَيْنِ لِتَفْوِيتِ أدْنَاهُمَا، وتَدْفَعُ أعْظَمَ المَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أدْنَاهُمَا.
فَإذَا وُصِفَ العَمَلُ بِمَا فِيْهِ مِنَ الفَسَادِ مِثْلَ كَوْنِهِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أنْ يُدْفَعَ بِهِ مَفْسَدَةٌ شَرٌّ مِنْهُ وأكْبَرُ وأحَبُّ إلَى الشَّيْطَانِ مِنْهُ فَيَدْفَعُ بِمَا يُحِبُّهُ الشَّيْطَانُ مَا هُوَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ، ويَحْتَمِلُ مَا يُبْغِضُهُ الرَّحْمَنُ لِدَفْعِ مَا هُوَ أبْغَضُ إلَيْهِ مِنْهُ، ويُفَوِّتُ مَا يُحِبُّهُ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ، وهَذِهِ أُصُولٌ مَنْ رُزِقَ فَهْمَهَا والعَمَلَ بِهَا فَهُوَ مِنَ العَالِمِينَ بِالله وأمْرِهِ .

ثُمَّ قَالَ : فَإذَا أُعْطِيَتِ النُّفُوسُ الضَّعِيفَةُ حَظًّا يَسِيرًا مِنْ حَظِّهَا يُسْتَجْلَبُ بِهِ مِن اسْتِجَابَتِهَا وانْقِيَادِهَا خَيْرٌ كَبِيرٌ ويُدْفَعُ عَنْهَا شَرٌّ كَبِيرٌ أكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ الحَظِّ كَانَ هَذَا عَيْنَ مَصْلَحَتِهَا والنَّظَرِ لَهَا والشَّفَقَةِ عَلَيْهَا، وقَدْ كَانَ النَّبِيُّ
صلى الله عليه وسلم
يُسَرِّبُ الجَوَارِيَ إلَى عِنْدِ عَائِشَةَ يَلْعَبْنَ مَعَهَا ويُمَكِّنُهَا مِنِ اتِّخَاذِ اللُّعَبِ الَّتِي هِيَ فِي صُوَرِ خَيْلٍ بِأجْنِحَةٍ وغَيْرِهَا، ويُمَكِّنُهَا مِنَ النَّظَرِ إلَى لَعِبِ الحَبَشَةِ وكَانَ مَرَّةً بَيْنَ أصْحَابِهِ فِي السَّفَرِ، فَأمَرَهُمْ فَتَقَدَّمَهُمْ ثُمَّ سَابَقَهَا فَسَبَقَتْهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَسَابَقَهَا فَسَبَقَهَا

فَقَالَ : «هَذِهِ بِتِلْكَ»
واحْتَمَلَ صلى الله عليه وسلم ضَرْبَ المَرْأةِ الَّتِي نَذَرَتْ إنْ نَجَّاهُ الله أنْ تَضْرِبَ عَلَى رَأْسِهِ بِالدُّفِّ لِمَا فِي إعْطَائِهَا ذَلِكَ الحَظَّ مِنْ فَرَحِهَا بِهِ وسُرُورِهَا بِمَقْدَمِهِ وسَلَامَتِهِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهَا ومَحَبَّتِهَا لله ورَسُولِهِ، وانْبِسَاطِ نَفْسِهَا وانْقِيَادِهَا لِمَا تُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الخَيْرِ العَظِيمِ الَّذِي ضَرْبُ الدُّفِّ
فِيْهِ كَقَطْرَةٍ سَقَطَتْ فِي بَحْرٍ ..
وَهَلْ الاسْتِعَانَةُ عَلَى الحَقِّ بِالشَّيْءِ اليَسِيرِ مِنَ البَاطِلِ إلاَّ خَاصَّةَ الحِكْمَةِ والعَقْلِ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ مِنَ الحَقِّ إذَا كَانَ مُعِينًا عَلَيْهِ، ولِهَذَا كَانَ لَهْوُ الرَّجُلِ بِفَرَسِهِ وقَوْسِهِ وزَوْجَتِهِ مِنَ الحَقِّ، لأعَانَتِهِ عَلَى الشَّجَاعَةِ والجِهَادِ والعِفَّةِ، والنُّفُوسُ لا تَنْقَادُ إلَى الحَقِّ إلاَّ بِبِرْطِيلٍ فَإذَا بَرْطَلَتْ بِشَيْءٍ مِنَ البَاطِلِ لِتَبْذُلَ بِهِ حَقًّا، وُجُودُهُ أنْفَعُ لَهَا وخَيْرٌ مِنْ فَوَاتِ ذَلِكَ البَاطِلِ، كَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ تَرْبِيَتِهَا وتَكْمِيلِهَا، فَلْيَتَأمَّلِ اللَّبِيبُ هَذَا المَوْضِعَ حَقَّ التَّأمُّلِ فَإنَّهُ نَافِعٌ جِدًّا والله المُسْتَعَانُ!» .

وَقَالَ أيْضًا رَحِمَهُ الله (300) :
«فَهَذَا كَانَ فَرَحُ هَؤُلاءِ الضُّعَفَاءِ العُقُولِ الَّذِينَ لا تَحْتَمِلُ عُقُولُهُمْ الصَّبْرَ تَحْتَ مَحْضِ الحَقِّ فَكَانَ فِي إقْرَارِهِمْ بِالتَّرْخِيصِ لَهُمْ فِي هَذَا القَدْرِ مَصْلَحَةً لَهُمْ وذَرِيعَةً إلَى انْبِسَاطِ نُفُوسِهِمْ وفَرَحِهِمْ بِالحَقِّ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّرْخِيصِ فِي اللَّعِبِ لِلْبَنَاتِ، ومَا شَاكَلَ ذَلِكَ، وهَذَا مِنْ كَمَالِ شَرِيعَتِهِ ومَعْرِفَتِهِ بِالنُّفُوسِ ومَا تَصْلُحُ عَلَيْهِ، وسَوْقِهَا إلَى دِينِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ وفِي كُلِّ وَادٍ .

ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ النُّفُوسَ الصِّغَارَ والعُقُولَ الضَّعِيفَةَ إذَا حُمِلَتْ عَلَى مَحْضِ الحَقِّ وحُمِّلَ عَلَيْهَا ثِقَلُهُ تَفَسَّخَتْ تَحْتَهُ واسْتَعْصَتْ ولَمْ تَنْقَدْ، فَإذَا أُعْطِيَتْ شَيْئًا مِنَ البَاطِلِ لِيَكُونَ لَهَا عَوْنًا عَلَى الحَقِّ ومَنْفَذًا لَهُ، كَانَ أسْرَعَ لِقَبُولِهَا وطَاعَتِهَا وانْقِيَادِهَا …
وهَذَا البَاطِلُ واللَّهْوُ الَّذِي هُوَ حَظُّ الأطْفَالِ والنِّسَاءِ والجَوَارِي .

ولا رَيْبَ أنَّ الرِّجَالَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِيهِمْ، بَلْ كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ الرَّجُلَ المُغَنِّيَ مُخَنَّثًا لِتَشَبُّهِهِ بِالنِّسَاءِ

وسُئِلَ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الغِنَاءِ فَقَالَ لِلسَّائِلِ :
أرَأيْتَ إذَا مَيَّزَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ فَفِي أيِّهِمَا يُجْعَلُ الغِنَاءُ فَقَالَ فِي البَاطِلِ
قَالَ : فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إلاَّ الضَّلَالُ، فَكَانَ العِلْمُ بِأنَّهُ مِنَ البَاطِلِ مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوسِهِمْ كُلِّهِمْ وإنْ فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ» انْتَهَى .

وأخِيرًا؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أنَّ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ لِلرِّجَالِ حَرَامٌ وذَلِكَ لأمُورٍ:

الأمْرُ الأوَّلُ : أنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ إلاَّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَقَطْ، ومَنْ تَتَبَّعَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَلِمَ ذَلِكَ، بَلْ لا نَعْلَمُ أحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أوِ التَّابِعِينَ أوْ مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِينَ ضَرَبَ بِالدُّفِّ، ومَنْ نَقَلَ خِلافَ ذَلِكَ فَهُوَ كَذِبٌ أوْ غَيْرُ صَحِيحٍ .
الأمْرُ الثَّانِي : أنَّ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ مِنَ البَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ فِي الحَقِّ، وهَذَا لا يَكُونُ إلاَّ لِلنِّسَاءِ والصِّبْيَانِ أهْلِ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ، كَمَا ورَدَتِ السُّنَّةُ بِإبَاحَةِ لُبْسِ الحَرِيرِ والذَّهَبِ والغِنَاءِ والضَّرْبِ بِالدُّفِّ لِلنِّسَاءِ .
الأمْرُ الثَّالِثُ : أنَّ فِعْلَهُ مِنَ الرِّجَالِ فِيْهِ تُشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ عِيَاذًا بالله، وقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم :
«لَعَنَ الله المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ …»
البُخَارِيُّ،

والله تَعَالَى أعْلَمُ .

كتبه الشيخ / ذياب بن سعد الغامدي
دار دار

موضوع رائع
سلمت يداكِ حبيبتي طموحي داعية
بارك الله فيكِ
ولاحرمتي الاجر والثواب

استفدت من الموضوع
جزاكِ الله خيرا

تواجدكـ بين صفحاتي كم هو رائع
وبين حنايا كلماتكـ
تغرد على اوراق متصفحي
لا عدمت هذا التواجد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

دار

دار

شكرآً لكل أخت000
شكراً 00لكل من ردت على مواضيعي ولو بكلمة بسيطة

لأن هذه الكلمة
أثرت فيني وأسعدتني وزادت من ثقتي بمواضيعي

</B></I>

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.