وكم كان النصّ بديعاً حين جعل الصّدق هو طريق البرّ ، والكذب طريق للفجور!
البرّ الذي يشمل بمعناه كل خُلق واثر جميل حسن ، والفجور الذي يحمل في معانيه الفساد والطغيان والهلاك .
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الصدق ليهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا " .
وقف متأملاً عند قصّة موسى عليه السلام ونكاحه من ابنة الرجل الصالح ، وكيف أنه بدأ حياته بوضوح في الوعد وصدق في التنفيذ : " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) " .
إن العلاقات – أي علاقة كانت – عندما تقوم على الغش والمخادعة والكذب والمراوغة وعدم الوضوح سريعاً ما يتسرّب إليها داء الشك والريبة وسوء الظن فتنتهي بالسخطة واللعنات والثبور !!
ولقد اخبرنا الصادق المصدوق أن الوضوح والتبيين من أهم أسباب حصول البركة للمتعاملين ، و البركة فيها معنى النماء والزيادة . فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " .
فلئن كان الصّدق والوضوح في عقود مالية تورث البركة للمتبايعين وهو عقد ينتهي بمجرد الافتراق بين المتابيعين ، فكيف بعقد الزواج الذي وصفه الله تعالى بقوله
: " وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً " ؟!
الصّدق يورث البركة في الحياة والعلاقة والحب والمودة والرحمة والألفة و السعادة .
وهنا يوقفنا الوحي عند نصّ عظيم أسيء فهمه فساء التطبيق ، فأورث ذلك مشاكل وخلافات وريبة بين الأزواج ، حتى صرت تقرأ في رسائل كثير من الزوجات ( زوجي يكذب عليّ ) !!
( اكتشفت أن زوجي كذّاب ) .. ( لم أعد أثق بوعوده وكلماته ) !!
إلى غير ذلك من الكلمات التي تفور بالكمد من سطوة الريبة والشك على العلاقة بين الزوج وزوجته وبداية ذلك ( كذبة بيضاء ) يتساهل فيها كثيرٌ من الأزواج متكئين على نصّ صحيح لكنهم أساؤوا فهمه فساء التطبيق !!
عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ). – رواه البخاري – حديث رقم: 2546.
وعند مسلم – رحمه الله – حديث رقم: 2605 :
( قال بن شهاب ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ). !!
وعن عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لا يصلح الكذب إلا في ثلاث يحدث الرجل امرأته ليرضيها والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس " انظر حديث رقم: 7723 في صحيح الجامع .
وفي رواية : " ليستصلح خلقها "
فطار بهذا الحديث ( ركبان ) من الأزواج يستسهلون الكذب و ( المراوغة ) على زوجاتهم أو العكس متجاهلين عواقب الكذب الوخيمة في الدنيا والآخرة .
إذ يكفي في شناعة الكذب أن يصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ( من أكبر الخيانات ) ، فقد جاء عند أبي داود ، عن سفيان بن أسد الحضرمي قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت به كاذب " .
فلئن كان حديثك لأخيك بالكذب ( وهو مصدق لك ) يعتبر خيانة ، فكيف بالكذب على الزوجة – التي هي أقرب – ( وهي مصدّقة لك ) ؟!
يبقى السؤال المهم : كيف نفسّر حديث تجويز الكذب على الزوجة الوارد في النصوص السابقة ؟!
إنه يمكن أن نفهم النصّ من خلال هذه الخطوط العريضة :
1 – الأصل أن الصّدق من سمات المؤمنين وصفاتهم . قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " .
2 – الكذب صفة مذمومة وخلق من أخلاق المنافقين ، وقد حرّم بالنصّ والإجماع .
3 – الكذب يباح للضرورة فيما إذا ظهرت المصلحة ظهوراً واضحاً ، وقد اختلف أهل العلم في الكذب الذي يباح للضرورة فمنهم من قال :
أ / المقصود بالكذب المباح للضرورة إنما هو ( التوريه ) ، وهذا يفهم من نصّ الحديث " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا " أنه قيّده بأنه يُنمي خيراً . وفي الحديث الآخر قال : " ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب " فأضاف الكذب إلى قول الناس في تلك الأشياء ، لا إلى حقائق تلك الأشياء ، وعلى هذا فيكون الكذب المرخّص فيه هو ما كان في باب ( التورية والمعاريض ) .
ب / ومن أهل العلم من قال بإباحة الكذب – الذي هو الإخبار بخلاف الواقع – عند الضرورة وذلك ما إذا كان بالصّدق يتحقق الضرر غير المقدور عليه .
4 – واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها .
5 – النظر في المصلحة المتحققة والمقصد المراد من ( التورية ) وهو ( استصلاح خلق الزوجة و إرضائها ) ، وعلى هذا فالكذب أو ( التورية ) على الزوجة إذا لم يكن يحقق أحد هذين المقصدين فإنه لا معنى للتذرّع بذلك .
على أنه ينبغي عدم الإكثار من مثل هذا ، لأن ذلك ربما يجرّ إلى استسهال الكذب و المراوغة فيوقع المرء في الإثم والحرج الشديد .
v من صور الكذب – المذموم – في العلاقات الزوجية :
– عدم الصّدق في المواعيد .
فيعد الزوج زوجته بأمور هو يعلم أنه لا يستطيع أن يفي بها ، ويبقى يعدها ويعدها ولا يفي حتى يبقى ذلك خلقاً له يُعرف به !!
– عدم الصّدق في الالتزام وتحقيق شروط العقد .
فلربما اشترطت الزوجة عند العقد بعضاً من المصالح والشروط المشروعة ، ويتم الاتفاق عليها عند العقد ، حتى إذا أخذت بهم الحياة ، بدأ يراودها و يعاوضها على شروطها ، وربما ضغط عليها بسيف الحياء على أن تتنازل عن هذه الشروط أو بعضها .
– عدم الصّدق في النوايا الحسنة عند العقد .
فهو يعقد عليها وفي نيّـته أنه يطلّقها بعد ما يسلب منها زهرة عمرها وشبابها ، أو بعد ما يقضي منها وطره – ومن هذا الباب حرّم بعض أهل العلم الزواج بنية الطلاق – ، أو ينوي عند العقد الحصول على مالها أو حسبها ، أو يعقد في قلب النوايا غير الحسنة مما يمليه عليه هواه وشهوته !!
v صورة من الكذب – المباح – في الحياة الزوجية :
أن أبا غرزة أخذ بيد ابن الأرقم، فأدخله على امرأته فقال أتبغضيني ؟
قالت: نعم .
قال له ابن الأرقم: ما حملك على ما فعلت؟
قال كثرت على مقالة الناس !
فأتى ابن الأرقم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فأخبره، فأرسل إلى أبي غرزة
فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: كثرت علي مقالة الناس ؛ فأرسل إلى امرأته فجاءته ومعها عمة منكرة ، فقالت: إن سألك فقولي: استحلفني فكرهت أن أكذب،
فقال لها عمر: ما حملك على ما قلت؟ قالت: إنه استحلفني فكرهت أن أكذب
فقال عمر: بلى …. فلتكذب إحداكن ولتجمل، فليس كل البيوت تبنى على الحب ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام . – ذكر القصة المتقي الهندي في كنز العمال الأثر رقم 45859 .
والمقصود أن الكذب في إبداء العواطف من أجل ديمومة الحياة بين الزوجين و استقرارها أمرٌ لا بأس به طالما وأن المقصد مقصد مراد للشارع ، سيما وأن المصارحة بالحب مما تدخله التورية فكل مسلم ومسلمة له واجب المحبة العامة التي هي للمؤمنين والمؤمنات .
ومن الصّور التي يجوز فيها الكذب بين الزوجين :
– عدم المصارحة بما كان في الأيام الماضية من ذنوب ومعاصٍ أو هفوات من أحد الزوجين قبل ارتباط بعضهما بالآخر ، حتى لو أن أحدهما سأل الآخر عن ماضي أيّامه فلا يجوز المجاهرة بالمعصية .
وذلك لأن الإنسان مأمور بستر نفسه ، ولأن المصارحة بمثل هذه الذنوب نوع من المجاهرة التي لا تجوز ، وربما أفسدت العلاقة بين الزوجين .
ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي واجعلني من الصّادقين .
</SPAN>
موفقه يالغلا…
تقبلي مروري..
ماشاء الله عليك موضوع في غاية الروووعه
الله يبارك فيك ويجزاك خيير