د. معاذ حوا
تابع : منهج السير القلبي للوصول إلى الأحوال القلبية السليمة
2) إرادة صحيحة
أول تزكية القلب أن يكون القلب راغباً في الخير والحق، وهذه الرغبة هي التي تُوجِد الإرادة السليمة، فكلما حدَّث الإنسان نفسه بالخير وكلما عمَّق في نفسه حُسْن الخير وجمال الحق، وكلما ذكَّر نفسه بذلك؛ كلما حَمَله ذلك على الإصرار على الخير، فتتولد الإرادة والإصرار على الخير نتيجة كثرة التحديث بالحق والتذكر له، مع الميل إليه والشعور بحُسْنِه وخَيره، ومن أراد شيئاً سليماً فهو صاحب نية سليمة،
فإذا تمسك بنيته وأصر عليها فهو صاحب عزيمة، صادقٌ في رغبته في الخير، صَدَّقَ رغبته بأن بنى عليها فأتبعها بإرادة صحيحة ونية عازمة صادقة لا تردد فيها، ثم يصدِّق نيته الصادقة العازمة بعمله وِفْقَها، فلا يترك العمل إلا إذا حيل بينه وبينه لأمر قاهر.
ولا يزال الإنسان يتذكر الخير والحق، ويتذكر مصالحه ومنافعه، حتى تقوى الإرادة ويوجد القرار بالسعي لها والعمل على ضوئها، فقناعته العقلية بالحق هي إيمانه، توجِد رغبته ونيته الصحيحة المتوافقة مع العقل والعلم والاعتقاد الحق، وهي إرادته القلبية، وإرادته القلبية تدفعه إلى السعي فيحصل العمل الجسدي بما أمر الله، وبهذا تتكامل تزكية الإنسان، وقد ذكر الله تعالى هذه الأمور معاً في قوله:
{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً }،
وبالجمع بين هذه الأمور يكون قد أدى حق الله فكان شاكراً لفضل الله وإحسانه وعطائه.
والإرادة القلبية المطلوبة ترافق كل شيء في حياة الإنسان، فينبغي أن لا يوجد عمل أو قول؛ إلا ومعه إرادة قلبية في أن يكون موافقاً للحق، وإلا أن يكون متوجهاً إلى الله بذلك العمل، فيصير حاله كما قال الله تعالى:
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 162]
فالله هو المراد المقصود بكل عمل وفعل وقول وعبادة وفي كل ما يكون في الحياة، وهذا وصف المؤمنين بحق، الذين أطاعوا الله في كل وقت، وجعلوا قلوبهم مريدة رضا الله ووجهه وجنته، قال تعالى: { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام: 52]،
طلبوا رضوان الله وبحثوا عنه في كل شيء وفي كل وقت: { أفمن اتبع رضوان الله }.
ومما سبق تدرك أن الإرادة القلبية تكون في أمرين: إرادة فعل الخير والحق، ثم قصد وجه الله بهذا الخير والحق، وعدم إرادة غيره أو قصد إرضاء غيره في أي فعل.
فصاحب هذه الإرادة يكون كل تَوَجُّهِه هجرة إلى الله ورسوله: « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله »أخرجه البخاري ومسلم، ويكون بذلك مقبلاً على الله إقبالاً قوياً كأنما هو هاربٌ فارٌّ من غيره: { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ } [الذاريات: 50]،
وذكر الله قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: { وَقَالَ: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [العنكبوت: 26].
واعلم أن الذي تحقق بالإرادة القلبية الصحيحة، فأراد أن تكون حياته وأعماله كلُّها لله وموافقة للحق؛ فإنه سيكون في كل عمل يعمله حاضر النية لله وموافقاً به شرع الله، وتكون نيته في كل عمل تلقائية جاهزة لا يحتاج إلى تكلف فيها، فمن تحقق بالإرادة القلبية الصحيحة لا يجد صعوبة في استحضار الإخلاص لله في كل عمل، كما لا يجد صعوبة في الاستقامة على أمر الله.
فالإرادة نية عامة صادقة شاملة لكل الأقوال والأعمال القلبية والجسدية، تصير بها نية كل عمل بمفرده خالصة صادقة.
واعلم أن أصل التزكية نابع من باطن الإنسان من عقله وقلبه، فأي تزكية في ظاهر الأمر إذا لم تكن نابعة من رغبة الإنسان الباطنية في الصلاح والخير والحق ونبذ الباطل والشر والسوء؛ فليست تزكية، وإنما هي صورةُ تزكيةٍ لا تنفع صاحبها، فمن كانت أعماله موافقة للشرع أو كانت أخلاقه في الظاهر جميلة؛ لكنه لم يكن يريد بها الله، فهي لا تنفعه عند الله، ولا تنجيه في الآخرة.
وإذا ظن الإنسان أن عنده حالاً قلبياً وعقلياً يُرَغِّبُه بالحق والخير، ويدفعه إليهما؛ ولم تظهر ثمرة ذلك على ظاهر الإنسان وعمله وأقواله؛ فذلك دليل على عدم الصدق في باطنه، فلا يعتبر من أهل التزكية إلا بقدر الصدق في تلك النية والرغبة التي في داخله وباطنه، ومن منعه مانع قاهر من العمل الظاهر لكنه كان صادقاً في باطنه فهو من أهل التزكية، ولا يضره عندئذ عدم ظهور الفعل على جوارحه.
– إذا صح ميل الإنسان وهواه واتجاهه ونيته وما يريد، فكان لا يريد إلا الخير والصلاح والبر والهداية واللطف والفضيلة والسكينة، والانسجام مع وظيفته التي خلق لها، والانسجام مع الكون الذي سُخِّر له، فذلك القلب الصالح السليم، وإذا وجد هذا القلب اتجهت الجوارح بدءاً باللسان؛ اتجهت إلى الخير والطاعة والصلاح والمصلحة.
ثم ما تعمله الجوارح من خير يعود على القلب بالحياة والنور ومزيد التقوى، قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحديد: 28]، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21].
وما تعمله الجوارح من شر يعود على القلب بالظلمة والفساد والقسوة، قال تعالى:
{ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14].
3) مجاهدة مُثْمِرة
– إنه مع وجود الرغبة القلبية في الحق والخير يجد الإنسان اندفاعاً تلقائياً نحو الحق والخير والعمل بهما، فلا يحتاج أن يجهد نفسه بل يجد طمأنينة وانقياداً نحو الخير وارتياحاً واستسلاماً، ففي الوضع الطبيعي السليم للقلب لا حاجة إلى إجهاد النفس وحملها على العمل لوجود الرغبة الدافعة.
وأما في حالة وجود مرض في القلب، أو وجود ميل إلى الباطل ورغبة فيه، رغم القناعة العقلية بالحق، فإن الإنسان لا بد أن يواجه الرغبة الباطلة في قلبه، ولا بد أن يواجه الموانع القلبية بمخالفتها ومجاهدتها حتى يَحْمِل نفسه على موافقة العقل والحق،
لا على موافقة هوى النفس ورغبتها الباطلة.
ومن هاهنا وجبت المجاهدة للنفس حتى يصل الإنسان إلى الاستقامة والهداية التامة.
– إنه إذا وجدت الرغبة الصحيحة والميلُ نحو الحق والخيرِ والمصلحة الحقيقية والمنفعة؛ كانت الإرادة صحيحة وسليمة، وذلك إذا لم توجد
أيُّ رغبة أخرى في أي شيء من الباطل والشر والشهوة والمفسدة، أما إذا وجدت – ولو رغبة واحدة أو شهوة واحدة أو ميل أوهوىً في النفس – فإنه يصير في القلب تنازع بين الرغبات وتصارعٌ، فيتقلب القلب بين الرغبتين، فتارة توجد إرادة موافقة لهذه الرغبة
وتارة توجد إرادة موافقة للرغبة الأخرى، بحسب المرجحات التي تمدُّ إحدى الرغبتين أو تُذَكِّر بإحداهما،
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القلوب فذكر منها القلب الذي تتنازعه الرغبات والميول
فقال: « وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمَثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحةِ يمدها القيح والدمُ، فأي المدتين غلبتْ على الأخرى غلبتْ عليه »أخرجه أحمد، وقال ابن كثير: إسناد جيد حسن.
فيحتاج طالب التزكية إذا كان على هذا الحال أن يقوي أسباب الرغبات الصحيحة ويقطع أسباب الرغبات السيئة، فإذا غلبت على القلب الرغبة بالباطل والشر والشهوة والمفسدة؛ فيجب أن يقابلها بالمجاهدة، ويقطع هذه الرغبة حتى لا تتحول إلى إرادة وعمل منكر.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصارعة الإنسان لنفسه ومجاهدته لجانب الباطل فيها
إذ قال في الحديث الصحيح: « والمجاهد من جاهد نفسه في الله ».
– ورغبة الإنسان في أن يجاهد الرغبة الفاسدة تجعل منه متوجهاً إلى الحق راغباً فيه معرضاً عن الباطل، فتنمو هذه الرغبة فتكون مانعة للرغبة الباطلة، فيصل بذلك الإنسان إلى الهداية، وهي الدلالة إلى الحق، إذ لا تبقى للقلب رغبة إلا في حق وخير ومصلحة حقيقية،
وقد نبه الله تعالى إلى أن المجاهدة تؤدي إلى الهداية، فقال: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }.
– من خلال الأمور الثلاثة السابقة، إذا اجتمع معها الاعتقاد الصحيح، وما ينبني عليه من معرفة المصالح، مع ما يرافقها من تَذَكُّر
من خلال أسبابه المعينة عليه؛ تنشأ الأحوال والصفات والأخلاق القلبية السليمة.
– إن الإيمان بوجود الله وألوهيته وربوبيته وحُكْمِه وقدرته والإيمان بالرسول والإيمان بالقرآن والإيمان بالآخرة، والإيمان بكل حقيقة كبرى؛ يُوَلِّدُ وينشئ صفاتٍ ورغبات وإرادات في القلب، وإذا لم تنشأ تلك الصفات والإرادات فيجب على الإنسان أن يتكلفها ويرغب بها ويَسْتَحْلِيَها ويتذكر الحقائق التي ترسخها في القلب والنفس.
فيتكلف الإخلاص حتى يصير سجية فيه، ويتصبر حتى يصير الصبر صفة فيه، ويتوكل حتى يصير التوكل على الله عادة ملازمة فيه، ويتخوف حتى يصير الخوف من الله مسيطراً عليه واقياً له من الشرور، ويرجو حتى يصير الرجاء من الله ديدنه الدافعُ إلى توبته الباعثُ له إلى الخير، ويتزهد حتى يصير الزهد سمة فيه، ويُحِبُّ حتى يصير محباً مشتاقاً متعلقاً، ويتورع حتى يصير ورعاً، ويَكْرُمُ حتى يصير كريماً
ويَصْدُق حتى يصير صِدِّيقاً، ويَعِفُّ حتى يصير عفيفاً، وهكذا في سائر المقامات والصفات والأخلاق القلبية.
أصلح الله قلوبنا وقلوبكم وملأها إيماناً وزينه فيها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سلِمت يداكِ على الإنتقاء الهادف
جزاكِ الله الجنه ونعيمها
واسمحي لي بهذه الإضافه
من أقوال ابن القيم في القلب :
1- ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، والبعد عن الله .
2- خلقت النار؛ لإذابة القلوب القاسية .
3- أبعد القلوب عن الله القلب القاسي .
4- إذا قسا القلب قحطت العين .
5- قسوة القلب من أربعة أشياء، إذا جاوزت قد الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة.
6- كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب – فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ.
7- من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.
8- القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
9- القلوب آنية الله في أرضه، فأحبه إليه أرقها، وأصلبها، وأصفاها.
10- خرابُ القلب من الأمن والغفلة، وعمارتُه من الخشية والذكر.
11- من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق.
12- القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم
وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة، والتوكل، والمحبة، والإنابة
13- للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية؛ فالسافلة دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدوٌ يوسوس له
فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها.
والثلاثة العالية علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.
منقول من كتاب ( الفوائد ) لابن القيم
جزاكِ الله خيرا وبارك الله لك
سلمت يمنياكِ
جعل ما تقدمين في موازين حسناتكِ
جعلك الله من اهل التتقوى والفلاح
وجزاك الله الفردوس الاعلي
حتى تكون قلوبنا سيلمة يزينها الإيمان
جميلة أحرفكِ بقدر عمقها وصدقها النادر
جزاك الله الجنة