لا تنتهي شبهات العلمانيين والملاحدة عن الإسلام، فهؤلاء ينثرون شبهاتهم في كل اتجاه، لا يتركون شيئًا في الإسلام إلا وأثاروا حوله الشكوك.
من شبهات هؤلاء أن مناسك الحج مأخوذة من الوثنية، وأن الحج عبارة عن عبادة الحجر الأسود، وأن البناء الحجري الذي هو الكعبة الذي يطوف حوله المسلمون، ورجم الشيطان، وتقبيل الحجر الأسود ، والطواف سبع مرات، والرجم سبع رجمات، والهرولة سبع هرولات، إنما هيَ بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية، كما أن ثوب الإحرام الذي يلبسه المسلمون على اللحم إنما هو دائر في هذه الوثبة.
وهذا علماني آخر كتب في الأهرام (7مارس سنة 1930م) فوصف ما شاهد في روما من تقبيل قدم صنم من أصنامهم ثم قال: "و كذلك في مكة يقبلون الحجر الأسود، و كذلك يقبلون في طنطا عمود السيد، وهنا يقبلون قدم تمثال بطرس، فنحن وإن اختلفنا مذاهب وشيعة ما زلنا حافظين منذ أجيال دون وعي منا شيئا من عبادة الأسلاف .. شيئا من الوثنية …".
ولهؤلاء نقول:
إنّ الإنسانية بدأت مؤمنة موحدة، تلتزم منهج الله الذي أتى على لسان آدم أبي البشر، ثم توالت الرسالات الإلهية توضح الحق وطرائق الخير، كلّما تباعد الناس وتشاغلوا بِمُتَعِ الحياة الرخيصة. قال الله تعالى: [إنَّا أرْسَلْنَاكَ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا وإنْ مِنْ أُمّةٍ إلاَّ خلاَ فيها نذير] فاطر: 24.
والمنطقة العربية ومكَّة – على وجه الخصوص – عرفت شريعةَ إبراهيم وشريعة إسماعيل، وأنّ الحج هو ملّة إبراهيم الذي بنا الكعبة ورفع قواعدها مع ولده إسماعيل (عليهما السلام). قال تعالى أيضاً: [وعهِدْنَا إلَى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طهِّرَا بيْتِيَ للطائِفِينَ والعاكفينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ] البقرة : 125.
ومع تطاول الزمن وتباعد العهد بدأ الناس يبتدِعون في دين الله وأَغوتهم الشياطين فحرفوا وبدّلوا، فوضع العرب الأصنام في جوف الكعبة، وطاف البعض منهم وهم عراة، وحرّموا على أنفسهم مآكل ومطاعم قدموا بها من خارج الحرم، ومنعوا المحرم أن يدخل داره من بابها المعتاد، وغير ذلك كثير.
فلمّا جاء الإسلام محا آثار الجاهلية، فحطّم الأصنام، وأصبح المبدأ الإسلامي أن لا يطوف أحد بالبيت وهو عريان. فقال الله تعالى: [وليسَ البرُّ بأنْ تأتُوا البيوتَ منْ ظهورِها ولكن البرَّ منِ اتَّقَى وأْتُوا البيوتَ منْ أبوابِها واتقوا اللهَ لعلكم تُفلحونَ] البقرة: 189.
فالحج تشريعٌ إلهيٌّ على لسانِ رسل الله، وليس بدعةً اخترعها الوهم العربي في جاهليته، وللحج حكمةٌ بالغةٌ تعْجَزُ عنها أقلامُ الباحثينَ، ويكفي فيها على المستوى الفردي التَّجردُ من حُطَامِ الدنيا والإخلاص لله وحده، وصفاءُ القلب واستشعار الملأ الأعلى، وعلى المستوى العام التعارف الإسلامي والتقاء كافة المسلمين وأهل الفكر على كلمة سواء، هي: (لبيك اللهم لبيك).
ومن الناحية العلمية فإن في قوانين المادة التي أثبتها علماء الفيزياء، أن الأصغر يدور حول الأكبر، الإلكترون في الذرة يدور حول النواة، والقمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، والشمس حول المجرة، والمجرة حولَ المجرة، إلى أن نصل إلى الأكبر مطلقا وهوَ الله جل جلاله الصمد الصامد الثابت في هذا الكون.
إننا – نحن المسلمين – نُـقبـِـل باختيارنا ولهفتنا لربنا الخالق، و نطوف بمشيئتنا ورغبتنا وحبنا لإلهنا ولعبادته، ونتخذ من الكعبة رمزا لبيته الذي اتخذه سبحانه في الأرض منذ ذلك الزمن السحيق.
ورقم سبعة الذي يسخر منه هؤلاء، ألم يسألوا أنفسهم عن السر في أن درجات الطيف الضوئي سبع، والالكترونات تدور حول الذرة في سبع نطاقات والجنين لا يكتمل إلا في الشهر السابع، وأيام الأسبوع سبعة، والسماوات سبع، والأراضين سبع، وخلق الكون اكتمل بعد ستة أيام في الليلة السابعة؟
لماذا يلومنا العلمانيون الملحدون إذا قبّلنا ذلك الحجر الأسود الذي مسته أيدي أشرف الخلق وسيدهم، نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
أمّا ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط ألا يكون مخيطًا، فهوَ رمز للخروج والتجرد من زينة الدنيا أمام جبروت الخالق عز وجل، تماما كما نأتي إلى الدنيا في لفة، ونخرج منها في لفة، وندخل في القبر في لفة.
إنهم يشترطون لبس البدل الرسمية لمقابلة الملوك والرؤساء وكبار المسلمين، بينما يستكثرون علينا أنه لا يليق بجلالة الله إلا التجرد والتواضع التام والرجوع لحقيقة الآدمية الطبيعية، ولأن هذا الثوب البسيط يشترك فيه الغني والفقير برغم تفاوت المراتب والثروات.
إنَّ مناسك الحج هيَ عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلب، ولو وقف العلمانيون والملاحدة بحب وإخلاص على عرفة بين عدة ملايين، يقولون في صوت واحد: الله أكبر، ويتلون القرآن، ويهتفون جميعا لبيك اللهم لبيك، ويبكون ويذوبون حبا وشوقا لبارئهم وخالقهم ورازقهم، لدخل الإيمان في قلوبهم ولتابوا إلى الله واستغفروه.
وتقبيل الحجر الأسود ليس له في شعائر الحج عند المسلمين أي معنى من معاني العبادة، و إنما هو عمل مقتدي فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم مما عمل من مناسك الحج، وقد أمرنا أن نأخذ عنه المناسك؛ و لذلك قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عند تقبيل الحجر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع، و لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك " (رواه البخاري و مسلم و غيرهما).