تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » قراءة في الخطاب النقدي للإعجاز العلمي

قراءة في الخطاب النقدي للإعجاز العلمي 2024.

دار

قراءة في الخطاب النقدي للإعجاز العلمي

د. الحسن مصباح

من بين الظواهر اللافتة للنظر في حياتنا الإسلامية المعاصرة احتلال ظاهرة "الإعجاز العلمي" وخطابها حيزا واسعا ضمن المشهد المعرفي الديني المعاصر. وتسليط الأضواء على هذه الظاهرة من لدن أطراف متعددة المشارب، مرده – في نظرنا – إلى جِدة مجال تداوله (الإعلام: القنوات التلفزية والإنترنت) وجدة رجالاته الذين هم من القادمين على المجال الديني من أطياف معرفية حديثة. وهذان الأمران يعبران عن أهم خصائص خطاب الصحوة الإسلامية المعاصرة من حيث فضاء التداول وأهله: الإعلام فضاءُ إنتاجه وإخراجه، وروادُه خريجو التعليم الحديث، وبالأخص العلميون منهم الذين يشكلون العمود الفقري لتلك الظاهرة المعاصرة.

هذا الأمر الذي يبدو انقلابا في ظاهر الأمر في المشهد المعرفي الديني، سينتج عنه رد فعل تجاه الظاهرة الصحوية عموما، وظاهرة الإعجاز العلمي خصوصا، عبر عن ذاته من خلال خطاب نقدي متفاوت الصرامة مع هذه الظاهرة. وإذا كان لهذا الخطاب النقدي – في جزء منه – دور إيجابي في ترشيد وتصويب خطاب الإعجاز العلمي، فإنه بالمقابل أربك مسيرة هذا الخطاب عبر بعض ممارساته.

وقد ارتأيت أن تكون مساهمتي في هذا النقاش الدائر في الساحة الإسلامية من خلال تقديم قراءة في بعض مكونات الخطاب النقدي للإعجاز العلمي. هذه القراءة ستنطلق من مناقشة بعض إثباتات هذا الخطاب النقدي التي تضمنتها مقدمة الحوار المنشور بعنوان "الإعجاز العلمي.. إشكالات المنهج والتطبيق". مع التنبيه على أن هذه القراءة – وإن اتخذت من مقدمة الحوار منطلقا لها- فإنها ليست سجالا نقديا مع المحاوِرِ وحواره؛ فنقاشنا هو لعموم هذا الخطاب النقدي محاولة منا لاستئناف الأحكام الجاهزة الصادرة في حق خطاب الإعجاز العلمي.

خلفية المشهد

هذه التحفظات والملاحظات النقدية على خطاب الإعجاز العلمي والتي تنبع في نظرنا من نفس المعين لموقف المحاور حسام تمام من ظاهرة "الدعاة الجدد" يمكن إجمالها فيما يلي:

1. المجال المعرفي الديني يعرف حالة من الابتذال نتيجة التجرؤ عليه من غير أهل الاختصاص، لدرجة أصبح معها الإعجاز العلمي نوعا من "الموضة".

2. ضمن خطاب الإعجاز العلمي يتم الخلط بين كلام الله المقدس المطلق الثبوتي وبين أفهام واجتهادات وعلم البشر، مما يشكل خطرا على عقيدة المسلمين. ويشبه بعضهم ذلك بفتنة خلق القرآن.

3. الاشتغال بالإعجاز العلمي ينم عن تأثر غير واع بالحداثة الغربية المادية.

4. الاشتغال بقضية الإعجاز العلمي يعبر عما انتهت إليه الحال في عالمنا الإسلامي من ترد معرفي لاذ الناس على إثره بالإعجاز العلمي فرارا من إحساس رهيب بالفشل والتراجع الحضاري.

هذه الملاحظات النقدية يمكن إدراجها ضمن سؤالين رئيسين:

1- سؤال المصداقية العلمية ويتعلق بمدى الصلاحية العلمية لمضمون خطاب الإعجاز العلمي. هذا السؤال ينقسم بدوره إلى سؤالين: سؤال التخصص وسؤال العلم في علاقته بالدين. في مقالتنا هذه سنعالج فقط سؤال التخصص ونترك موضوع العلاقة بين الدين والعلم لفرصة أخرى.

2- وسؤال الوظيفة أو سؤال الفتنة، ويتعلق بالدور السلبي المنسوب لهذا الخطاب، سواء على عقيدة المسلمين أو على واقعهم المعيشي.

سؤال التخصص والمصداقية العلمية

كثيرا ما يطرح سؤال التخصص في مواجهة الدعاة عموما، ودعاة الإعجاز العلمي خصوصا، ويتم عادة الالتفاف عليه عبر التمييز بين "التفسير العلمي" و"الإعجاز العلمي" باعتبار الأول مجالا لاشتغال العلماء، بينما الثاني من المجال المباح للدعاة. بهذا المعنى يحمل التفسير العلمي قيمة علمية ذاتية، بينما يستمد الإعجاز العلمي قيمته من مفعوله الدعوي. الغريب في الأمر أن الخطاب النقدي الذي يطرح سؤال التخصص على الإنتاجات المعرفية الأخرى لا يطرحه على نفسه.

سؤال التخصص داخل المجال المعرفي الإسلامي يحيل في نظرنا على إشكاليتين متداخلتين:

الأولى تتعلق بالنخب الدينية والأدوار المعرفية التي تؤديها داخل الفضاء الإسلامي الحديث والمعاصر.
والثانية ترتبط بالمعرفة الدينية في علاقتها بالقديم والجديد من المعارف.
سنتطرق إلى هاتين الإشكاليتين انطلاقا من محاولتنا الإجابة عن السؤال الآتي: هل التفسير العلمي ورديفه الإعجاز العلمي يدخلان ضمن مجال علوم الشريعة فنحتاج إلى خريجي الكليات الشرعية ليفتونا في الأمر؟ أم هو أقرب إلى مجال "العلوم الكونية والطبيعية" (1) فيحال على خريجي الكليات العلمية ليتناولوه كل حسب اختصاصه؟ أم هو مجال معرفي جديد يتجاوز مجال تخصص كلا الطرفين؟.

نشير مقدما إلى أن موضوع الإعجاز – في حد ذاته – ليس جديدا على الثقافة الإسلامية، فقد كان لصيقا بالعلوم الشرعية، وإنما الجديد فيه هو إحالاته وفضاءاته المعرفية. لقد كان الإعجاز القرآني بلاغيا أساسا ضمن الفضاء المعرفي للعالمية الإسلامية الأولى (2) ويندرج ضمن مجال كفاءات علماء الشرع، حيث كانت اللغة وعلومها جزءا أساسيا من تكوين العالم التقليدي.

لكن بخلاف الإعجاز البلاغي الذي يستوحي أسسه من منتوج معرفي ذاتي، فإن الإعجاز العلمي يحيل إلى منتوج معرفي خارجي يتم استيراد مواده من "خصمنا" الحضاري. كما أن السياق التاريخي للإعجاز العلمي يتميز بإحساس فادح بالتخلف في الميدان نفسه (العلوم الكونية والطبيعية) الذي يحيل عليه هذا المولود المعرفي الجديد.

مأزق الخطاب النقدي للإعجاز العلمي يكمن في عدم استحضاره التحولات السوسيو-معرفية التي تعيشها أمتنا في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخنا بين نهاية العالمية الإسلامية الأولى وبوادر انطلاق العالمية الإسلامية الثانية. بين عالم ينهار وعالم جديد يولد، هناك مرحلة مخاض مؤلمة تصبح الرؤية فيها ضبابية؛ مما يتطلب نفوسا شفافة قادرة على الإبصار وسط الإعصار.

الوعي بطبيعة هذه المرحلة ومتطلباتها والأدوار الإيجابية التي يمكن أن يؤديها خطاب الإعجاز العلمي أولى بالاعتبار من السعي إلى تدميره عبر الاستنجاد بأمين الخولي أو عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (3).

ما نعيشه في هذه المرحلة من تاريخنا المعرفي هو انفصام بين معارفنا التقليدية التي كانت تندرج ضمن مخطط العلوم الشرعية، والمعارف الحديثة التي تضخمت أفقيا وعموديا لدرجة تبدو معها المعرفة الدينية الإسلامية أو غير الإسلامية بمثابة بقايا أركيولوجية (حفرية).

ضمن الفضاء المعرفي الحديث نشأت معارف وعلوم جديدة وتطورت أخرى قديمة وإن كان لا يجمع بين قديم متنها وحديثه في كثير من الأحيان إلا العنوان.

زيادة على ذلك، فإن مجال تداول المعرفة في عصرنا هذا توسع وتنوع ليشمل إلى جانب الفضاءات التقليدية من مدارس وجامعات، فضاءات حديثة من شبكات للمعلومات (الإنترنت) وقنوات تلفزية. بل حتى الفضاءات التقليدية تطورت أشكال إنتاج المعرفة فيها من خلال إنشاء مراكز البحوث والدراسات التي أصبحت ركيزة أساسية في إنتاج المعرفة والخبرة المتخصصة. والفضاءات الإعلامية الحديثة لا يقتصر دورها على ترويج المعرفة، بل تساهم في توجيهها وتسويقها.

لقد تم تسليع المعرفة ضمن هذه الفضاءات الحديثة، كما تنوعت واتسعت المعرفة وفضاءاتها ووسطاؤها. فبجانب العلماء والأدباء هناك الصحافي الذي اتسع دوره ونفوذه في تسويق المعرفة. بل أصبح صوته مسموعا أكثر من المتخصصين في مجموعة من المجالات.

ويبدو لنا أن سوء طالع خطاب الإعجاز العلمي ارتبط بمجال تداوله أساسا. ذلك أن الإعلام – نتيجة تنوع مضامينه وعدم انضباطه للمعايير الدينية عموما والعلمية خصوصا – جعله غير جدير بالاحترام داخل الساحة الثقافية الدينية. هذه النظرة التأثيمية للإعلام وارتباط الدرس الديني بالجامع أو المدرسة في مخيالنا الديني ساهم في تشكل جزء من الموقف السلبي من هذا الخطاب.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في ساحتنا العربية الإسلامية، وبعد غياب وتغييب المؤسسات العلمية التقليدية، تولت الحركات الإسلامية سد الفراغ المؤسسي الناتج عن غياب المؤسستين التقليديتين الرئيستين في تاريخنا السياسي والمعرفي: مؤسسة الخلافة والمدرسة الدينية. ستتولى هذه الحركات بموازاة مع الفضاءات الدينية التي نتجت عنها أو بجانبها إنتاج وسطاء معرفيين جدد جرت العادة على تلقيبهم بالدعاة. التمايز بين العلماء والدعاة مضاعف على مستوى جذر التكوين ومركز الاهتمام.

يخضع خريج المؤسسات العلمية التقليدية في تكوينه المعرفي الرسمي لمسار ومساق معرفي هرمي محدد تلعب فيه علوم اللغة دورا أساسيا. بينما الداعية إن لم يكن عصامي التكوين فهو يخضع في تكوينه الجامعي لمسار ومساق معرفي، حجرُ الأساس فيه العلومُ الاجتماعية أو العلوم الكونية والطبيعية. العصامية جزء من تكوين الجامعي وغير الجامعي من الدعاة. ذلك أن ثقافته الدينية إن كان من ذوي التكوين العلمي، وثقافته العلمية إن كان من ذوي التكوين الشرعي هي نتيجة جهد خاص وتعلم ذاتي (4).

اختلاف مسار التكوين سينشأ عنه اختلاف في مركز الاهتمام. العالم التقليدي: عالمه المعرفي هو "النص" وشروط تأويله، بينما الداعية مركز اهتمامه الواقع ومتطلباته (5). من هنا نتفهم غربة عالم الدين التقليدي وانسحابه من الساحة المجتمعية ونضالية الخطاب الدعوي، بما فيه خطاب دعاة الإعجاز العلمي. توظيف العلم للدفاع عن العقيدة الدينية هو جزء من معركتهم الأيديولوجية والسياسية ضد التيار المتغرب والإلحادي في المنطقة العربية الإسلامية.

هناك إنجاز مهم لخطاب الإعجاز العلمي قلما انتبه إليه ناقدو الإعجاز العلمي، وإن لم يكن مقصودا لذاته. هذا الإنجاز يتعلق بإدماج مجموعة مهمة من المعارف العلمية ضمن مكتسبات الوعي الديني. هذا الوسط نفسه أصبح اليوم يتحدث عن نظرية الانفجار الكوني وغيرها من النظريات العلمية، بل لا يرى في القول بالأسباب الطبيعية لنزول المطر أي تعارض مع اعتقاداته الدينية.

لقد نجح هؤلاء الدعاة فيما فشلت فيه كل جهود وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية في عملية تبسيط وترويج ثقافة علمية وسط عموم المواطنين. وهذا النجاح يظهر لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الانفتاح على العصر وثقافاته لا يمكن أن يمر إلا عبر مصفاة الثقافة الدينية.

أما تجاوزات خطاب دعاة الإعجاز العلمي ومن ثم إشكالية التخصص، فإنه لا يمكن علاجها -في نظرنا- عبر "تجريم" ظاهرة الدعاة الجدد أو خطابهم، ولكن عبر أكاديمية المعرفة الدينية. أي أن تستعيد المؤسسة العلمية دورها في شرعنة المعرفة وإنتاجها. ذلك أن الفضاءات الدينية الحديثة أنتجت لنا مجالا معرفيا هلاميا تحت مسمى "الفكر الإسلامي"، الذي أصبح عنوانا شاملا لعموم المعرفة الإسلامية. فمثلا كتاب "الحلال والحرام" للشيخ القرضاوي و"تجديد الفكر الديني" لمحمد إقبال أو كتاب "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان، كلها تندرج حاليا تحت لافتة "الفكر الإسلامي". ضمن التصنيف التقليدي للعلوم الإسلامية كانت هذه الكتب تنتمي إلى علوم مختلفة من الفقه إلى علم الكلام. هذا التصنيف وظيفته ليست تنظيمية للمعرفة فقط، وإنما أيضا معيارية. فلكل علم معايير للمصداقية والأصالة، وتاريخ إليه يحتكم كل إنتاج معرفي جديد، ومنه يستمد عمقه المعرفي.

إن ضم الإعجاز العلمي إلى علم الكلام مثلا سيساهم حتما في الضبط العلمي لهذا المجال المعرفي. ونقد هذا الخطاب سيتم حتما ضمن نفس الإطار المعرفي. ومن ثم فأكاديمية المعرفة حل لمشكل المصداقية العلمية لكل من خطاب الإعجاز العلمي ونقده. وهذا الأمر لن يتأتى إلا عبر تجديد أطر المعرفة الدينية لتستوعب ما أنتج خارج أسوارها من معارف، لتكون جديرة باستعادة ممتلكاتها المعرفية، ولكي تتوقف بذلك حالة الابتذال التي تعيشها ساحة الثقافة الدينية.

سؤال الفتنة

السؤال الملازم لسؤال المصداقية العلمية هو سؤال الفتنة؛ باعتبار أن هذا الخطاب بِرَهْنِهِ النص القرآني لمعطيات علوم نسبية يمثل خطرا على عقيدة المسلمين. ويتم تشبيه تداعيات هذا الخطاب بفتنة خلق القرآن. ويعتبر علي أسعد في بحثه المنشور على الموقع بعنوان "الإعجاز العلمي للقرآن.. رؤية نقدية"، "أن القول بالسبق القرآني في ذكر العلوم قبل اكتشافها حسب ما قدمتُه من تطبيقات، يعتبر مستندا ومسوغا للقراءات المعاصرة التي تسعى إلى جعل النص القرآني مادة هلامية يشكلها قارئه كما يريد".

الوجه الآخر للفتنة يتجلى في الدور التعجيزي المنسوب لخطاب الإعجاز العلمي عبر ممارسته نوعا من التعويض الوهمي عن حالة الفشل والتراجع الحضاري الذي تعيشه أمتنا، أي إن هذا الخطاب حسب هذه التهم يفتن الأمة عقديا وحضاريا.

فحص هذه الدعاوى يتطلب في نظرنا الإجابة عن السؤالين الآتيين:

– هل في واقع المسلمين ما يدل على هذا الدور الإفسادي المنسوب لخطاب الإعجاز العلمي؟.

– وما هي الجذور المعرفية لنسبة الدور التعجيزي لهذا الخطاب؟.

إن نسبة الفتنة إلى خطاب الإعجاز العلمي تتجاهل في نظرنا مجموعة من الوقائع البارزة في ساحتنا العربية الإسلامية يمكن إجمال أهمها فيما يلي:

1. جمهور خطاب الإعجاز العلمي هم عموم جمهور الصحوة الإسلامية الذي يؤطر من قبل علماء ودعاة متنوعي التخصص والاهتمامات. فجمهور زغلول النجار هم جزء من جمهور يوسف القرضاوي وعائض القرني وعمرو خالد والجفري وجمهور الحركات الإسلامية. ومن ثم فإن عملية تأطير وتكوين هذا الجمهور متنوعة في موادها ورجالاتها: من الفقه والتصوف إلى السياسة مرورا بالجيولوجيا وعلم الفلك.

2. جمهور القراءات المعاصرة ينتمي في مجمله إلى أطياف مجتمعية لا علاقة لها بجمهور الصحوة الإسلامية. وهناك فارق شاسع بين أغراض ونتائج الفعل لكلا الطرفين. فخطاب دعاة الإعجاز العلمي – حتى في أقصى صيغه المتطرفة – يدفع نحو الاعتزاز بالقرآن وقيمه، بينما يحيل خطاب القراءات المعاصرة على قيم الفضاء الحضاري الغربي. فموضوع وانشغالات القراءات المعاصرة هي المسألة السياسية والحقوقية، ومقدساته هي قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ورموزه هم روسو وغيره من المفكرين الليبراليين، بينما مجال اشتغال الإعجاز العلمي هو الموضوع العقدي.

وإذا كان هنالك من طرف في الساحة الإسلامية يمكن أن يشكل خطابه مستندا ومسوغا للقراءات المعاصرة، فهو خطاب الإسلام السياسي بدعوته لتبني الديمقراطية وحقوق الإنسان. زيادة على أن أصحاب القراءات المعاصرة يحملون موقفا سلبيا جدا من ظاهرة الإعجاز العلمي باعتبارها سندا للقراءات التقليدية (6).

3. أما استدعاء فتنة خلق القرآن فهو -في نظرنا- من باب المماحكة التي لا مبرر لها. ذلك أن السياق التاريخي لفتنة خلق القرآن يختلف تماما عن نظيره المتعلق بالإعجاز العلمي. فالفتنة الأولى ظهرت في سياق تاريخي تميز بكون مجموعة من القضايا العقدية الجزئية لم يكن قد تم حسمها نهائيا، بينما السياق التاريخي المعاصر يتميز بأمرين مختلفين: أولهما أن القضايا العقدية الجزئية لم تعد مطروحة للنقاش؛ فالولاءات العقدية قد تشكلت وتكلست لدرجة يصعب الحديث حتى عن تعديل جزئي لها فضلا عن زعزعتها. وثانيهما يتعلق بكون الموضوع العقدي المطروح في عصرنا يتعلق بأصل الإيمان أو عدمه، وهنا يكمن الدور الإيجابي لخطاب الإعجاز العلمي في تثبيت عقيدة الأمة من خلال توظيف المعطيات الثقافية والعلمية لعصره.

فلقد حلت معطيات العلوم الكونية والطبيعية في البرهنة على حقائق الوجود ومنح الصلاحية العلمية محل الدور الذي كانت تؤديه الأدلة المنطقية تاريخيا ضمن الفضاء المعرفي للعالمية الإسلامية الأولى. فالإعجاز المعاصر ابن لثقافة عصره ومنطقها كما كان عالم الكلام التقليدي وفيا لمعطيات عصره الثقافية.

وهنا يجب التنبيه على أحد الأمراض السائدة في ثقافتنا الدينية المعاصرة من خلال استدعاء التاريخ قصد إصدار أحكام على ظواهر فكرية قد لا تمت بصلة إلى الموضوع التاريخي المستدعى. هذا المنطق الإسقاطي ينم عن عقلية تنميطية توظف التاريخ للتعويض من جهة عن الكسل الذهني والعجز عن بذل الجهد النظري في تدقيق الأمور علميا، وعن إستراتيجية معرفية حربية تستخدم مدافع التاريخ للفتك بالخصم المعرفي.

4. وأخيرا فإننا نرى أن الموقف الذي ينسب دورا تعجيزيا لخطاب الإعجاز العلمي، يتغذى من ثقافة حديثة تعتبر الشأن العقدي ثانويا بالمقارنة مع الشأن العام. وهو في الوقت نفسه رد فعل على خطاب السلفية الحديثة التي جعلت من الشأن العقدي محور الحياة الإنسانية عموما، ومجالا رئيسيا لمعاركها الفكرية والسياسية.

فهذا الخطاب النقدي وجد نفسه محاصرا بين مطرقة السلفية "العقدية" وسندان الثقافة الحديثة، ونتيجة تدافعه مع التيار السلفي الذي يقتسم معه الساحة الدينية وجد نفسه مدفوعا إلى تبني موقف سلبي من ظاهرة الإعجاز العلمي عموما.

خاتمة

خلاصة القول في الموضوع إن موقفنا عموما من الظواهر المعرفية وخطاباتها أسير لتصورنا للوظيفة الاجتماعية أو السياسية التي تؤديها الظاهرة المدروسة أكثر مما يتحكم فيه مضمون خطابها. وحكمنا على الظاهرة وليد تصورنا لطبيعة المخاطر التي تهدد أمتنا وأولويات العمل الديني لمواجهة هذه المخاطر. وساحة العمل الديني يتجاذبها في هذا الجانب أيديولوجيتان رئيسيتان: الأيديولوجية العقدية تعتبر أن الأمة مهددة على المستوى العقدي والإيماني، ومن ثم يجب تركيز الجهود الدعوية والعلمية لحفظ عقيدة الأمة، بينما تحتل عقدة التخلف والتنمية وإشكالية الحريات السياسية المكانة الرئيسية ضمن الأيديولوجية الثانية. ويمكن اعتبار دعاة الإعجاز العلمي أقرب إلى التصور العقدي والإيماني بينما يمكن اعتبار الموقف السلبي لنقادهم يستوحي مجموعة من مبرراته من التصور الثاني ذي الطبيعة الاجتماعية والسياسية.

إن تحررنا من الخلفيات الأيديولوجية وتجديد أطر المعرفة الدينية هو فرصتنا التاريخية لتجاوز كثير من العقبات المعرفية والسلوكية التي تقف عائقا في وجه نهضة الأمة.

——————————————————————————–

* أستاذ بكلية العلوم جامعة محمد الأول- وجدة.

1)فضلنا استعمال عبارة العلوم الكونية والطبيعية بدل العلوم الحقة أو الدقيقة لما يحمله هذا التعبير الأخير من إيحاءات غير حيادية.

2)هذا المفهوم نستعيره من كتاب العالمية الإسلامية الثانية للمرحوم محمد أبو القاسم حاج حمد مع بعض التصرف، باعتبار العالمية الإسلامية الأولى المرحلة الأولى من الحضارة العربية الإسلامية التي بدأت مع البعثة المحمدية وانتهت بسقوط الخلافة العثمانية بينما تمثل العالمية الإسلامية الثانية مشروع الإسلام المستقبلي للبشرية.

3)الإشارة هنا إلى مقالات د.خالد منتصر حول ما سماه بـ" أكذوبة الإعجاز العلمي" بموقع عرب تايمز، والتي يستنجد فيها بنصوص منسوبة إلى كل من أمين الخولي وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) لإعطاء قيمة علمية لكتاباته ذات الطابع الهستيري.

4)حول مسألة التكوين والعلاقة مع المعرفة الدينية والمعرفة الحديثة انظر الفصل الخامس من كتاب تجربة الإسلام السياسي للباحث الفرنسي أوليفيه روا "Olivier Roy" ، دار الساقي.

5)انظر بحث محمد يحيى المنشور بمجلة الوعي المعاصر عدد 8-9 تحت عنوان المثقف والفقيه

6)انظر موقف أحميدة النيفر من هذه الظاهرة في كتابه المنشور تحت عنوان: الإنسان والقرآن وجها لوجه. وكذلك مقاله المنشور تحت عنوان: التفسير العلمي وتعطل المنظومة الثقافية الإسلامية بموقع إسلام أون لاين.

دار
مشكوره
على
المرور
جزتي خيراداردار
دار
يسلموووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو ووووووووووووووو
دار

بارك الله فيكى

دار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.