قال : صليت وراء النبي بالمدينة العصر ، فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ، ففزع الناس من سرعته ، فخرج عليهم ، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته
قال : ( ذكرت شيئاً من تبر عندنا ، فكرهت أن يحبسني ، فأمرت بقسمته )(22) رواه البخاري .
( التبر ) قطع ذهب أو فضة .
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ
فيما نقله عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه ؛ أنه صلى مع النبي ذات يوم صلاة العصر
فقام النبي حين أنصرف من صلاته مسرعاً ؛ يتخطي رقاب الناس على بعض حجرات زوجاته
ثم خرج فرأى الناس قد عجبوا من ذلك ، فبين لهم النبي سبب هذا، وقال ( ذكرت شيئاً من تبر عندنا )
يعني مما تحب قسمته ( فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته ).
ففي هذا الحديث المبادرة إلي فعل الخير ، وألا يتوانى الإنسان عن فعله ، وذلك لأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت ؛ فيفوته الخير ، والإنسان ينبغي أن يكون كيساً ، يعمل لما بعد الموت ولا يتهاون ، وإذا كان الإنسان في أمور دنياه يكون مسرعاً ، وينتهز الفرص ، فإن الواجب عليه في أمور أخراه أن يكون كذلك بل أولى
قال الله تعالى : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى:16-19).
وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله أسرع الناس مبادرة إلى الخير ، أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ محتاج إلى العمل ؛ كما أن غيره محتاج إلى العمل ؛ ولهذا لما حدث فقال : ( إنه لن يدخل الجنة أحد بعمله ) ، قالوا : لا أنت ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمد ني الله برحمته )(23) ، هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام .
وفي هذا الحديث دليل على جواز تخطي الرقاب بعد السلام من الصلاة ، ولا سيما إذا كان لحاجة ، وذلك لأن الناس بعد السلام من الصلاة ليسوا في حاجة إلى أن يبقوا في أماكنهم ، بل لهم الانصراف ، بخلاف تخطي الرقاب قبل الصلاة ، فإن ذلك منهي عنه ؛ لأنه إيذاء للناس
ولهذا قطع النبي خطبته يوم الجمعة حين رأى رجلاً يتخطى الرقاب ، فقال له : ( أجلس فقد آذيت )(24) .
وفي هذا الحديث دليل على أن رسول الله ـ كغيره من البشر ـ يلحقه النسيان ، وأنه ينسى كما ينسى غيره ، وإذا كان ينسى ما كان معلوماً عنده من قبل ، فإنه كذلك من باب أولى يجهل ما لم يكن معلوماً عنده من قبل ، كما قال الله له ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) (الأنعام:50)
فأمره الله أن يعلن للملأ أنه ليس عنده خزائن الله ؛ وأنه لا يعلم الغيب
وأنه ليس بملك صلوات الله وسلامه عليه .
وفي هذا قطع السبيل على من يلتجئون إلى الرسول في مهماتهم وملماتهم ، ويدعونه ، فإن هؤلاء من أعدائه وليسوا من أوليائه ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لو كان حياً لاستتابهم ، فإن تابوا وإلا قتلهم
لأنهم مشركون
فإن الإنسان لا يجوز أن يدعو غير الله عز وجل ؛ لا ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ، وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما جاء لحماية التوحيد وتحقيق عبادة الله ، فالنبي لا يعلم الغيب ، وينسى ما كان قد علم من قبل ، ويحتاج إلى الأكل والشرب واللباس والوقاية من الأعداء ، وقد ظاهر ـ بين درعين في غزوة أحد ـ
يعني لبس درعين ـ خوفاً من السلاح .
فهو كغيره من البشر ، جميع الأحكام البشرية تلحقه عليه الصلاة والسلام
ولهذا قال الله له : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) (الكهف: 110)
فتأمل وصفه بأنه بشر مثلكم ، لو لم يقل (مِثْلُكُمْ ) لكفى ، يعني إذا قال : إنما أنا بشر علمنا بطريق القياس أنه بشر كالبشر لكن قال (مِثْلُكُمْ ) لا أتميز عليكم بشيءٍ إلا بالوحي ، ( يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ ) الآية .
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على شدة الأمانة وعظمها ، وأن الإنسان إذا لم يبادر بأدائها فإنها قد تحبسه
ولهذا قال : ( فكرهت أن يحبسني )، وإذا كان هذا في الأمانة
فكذلك أيضاً في الدين ؛ يجب على الإنسان أن يبادر بقضاء دينه إذا كان حالاً ، إلا أن يسمح له صاحب الدين فلا بأس أن يؤخر ، أما إذا كان لم يسمح له ؛ فإنه يجب عليه المبادرة لأدائه ن حتى إن العلماء ـ رحمهم الله ـ
قالوا : إن فريضة الحج تسقط على من عليه الدين ؛ حتى يؤديه ؛ لأن الدين أمره عظيم ، كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قبل أن يفتح الله عليه الفتوح ؛ إذا جئ إليه بالرجل سال : ( هل عليه دين ؟) فإن قالوا : لا ، تقدم وصلى عليه ، وإن قالوا نعم ، سأل : ( هل له وفاء ؟) فإن قالوا : نعم ، تقدم وصلى ، وإن قالوا : لا، تأخر ولم يصل . يترك الصلاة على الميت إذا كان عليه دين . فقدم إليه ذات يوم رجل من الأنصار ، ليصلي عليه ، فخطا خطوات ، ثم قال : ( هل عليه دين ؟ ) قالوا : نعم يا رسول الله : ثلاثة دنانير وليس لها وفاء
فتأخر وقال : ( صلوا على صاحبكم ) فعرف ذلك في وجوه القوم ، تغيرت وجوههم ، كيف لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام ؟!
فتقدم أبو قتادة رضي الله عنه ، وقال يا رسول الله ، علي دينه ، فتقدم النبي فصلى عليه(25) .
ومع الأسف ؛ الآن تجد كثيراً من الناس عليه الدين ؛ وهو قادر على الوفاء ، ولكنه يماطل والعياذ بالله
وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، أنه قال : ( مطل الغني ظلم )(26)
وأعلم أن الدين ليس كما يفهمه الناس ؛ هو الذي يأخذ سلعة بثمن أكثر من ثمنها ، الدين كل ما ثبت في الذمة ، فهو دين حتى القرض ـ السلف ـ حتى إيجار البيت ، حتى أجرة السيارة ، أي شيءٍ يثبت في ذمتك فهو دين
عليك أن تبادر بوفائه ما دام حالاً .
وفي هذا الحديث أيضاً دليل على جواز التوكيل في قسم ما يجب على الإنسان قسمته
ولهذا قال : ( فأمرت بقسمته ) فأمر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقسم
وهذا التوكيل جائز في كل حق تدخله النيابة من حقوق الله ؛ كالحج مثلاً ، وأداء الزكاة ، وحقوق الآدميين
كالبيع ، والشراء ، والرهن ، وما أشبهها .
هو المبادرة إلى فعل الخيرات ، وعدم التهاون في ذلك ، واعلم أنك إذا عودت نفسك على التهاون اعتادت عليه وإذا عودتها على الحزم والفعل والمبادرة اعتادت عليه .
وأسال الله ـ تعالى ـ أن يعينني وإياكم على ذكره ، وشكره ، وحسن عبادته
وأسعدكِ الله في الدارين
سلِمت يداكِ
وبارك الله فيكِ