الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد..
فعالم النجاح معقود بنواصي القيم، والتاريخ مهما كان فسيحاً في حياة إنسان يظل يتيماً عارياً إذا لم تُلبسه القيم من جلبابها الكبير، وعظمة كل إنسان في الأرض رهن على حياة هذه القيم في واقعه.
إن شهر رمضان يجب أن يتحول في عقلية كل إنسان من مناسبة دينية باتت تؤثّر فيها العادات إلى مدرسة لبناء القيم، وفرصة لعناق كل أمنية يحلم بها إنسان، وعلينا أن ندرك أننا أمام مدرسة روحية تربّي القيم، وتجذّر المعاني الكبار في حياة كل إنسان.
وإنني -عبر هذه الأسطر- سأطوّف بك أيها القارئ الكريم في فناء هذه المدرسة لنقرأ أنا وإياك قصة القيم في حياة الكبار، وكيف أن هذه المدرسة قادرة على أن تخرّج طلاباً قادرين على بناء أنفسهم، وبناء واقعهم بالصورة التي يحلم بها الكبار.
إن رمضان يعلمنا قيمة الهدف في الحياة، وأثره في الواقع، ويدلنا اليوم على أن الحياة بلا أهداف، حياة بلا معنى ولا أثر!
وترى قضية الأهداف في رمضان قضية واضحة، ترى ذلك في قول نبيك -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (صحيح البخاري: 2024)،
و«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر، إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (صحيح النسائي: 5042).
إن كل مسلم يدخل بوابة هذه المدرسة يرى هذه الأهداف في كل جوانبها تهتف به وتدعوه لعناق رحلته الكبرى في ثلاثين يوماً، إن الهدف هنا بيّن واضح، وهو هدف محدد الوقت، يبدأ في رمضان وينتهي بعد ثلاثين يوماً، ومن روائع الهدف أن مكافأته تحتف به وتغري بعناقه، وهي مكافأة تدفع صاحبها لركوب الأهوال من أجل عناق ذلك الهدف.
إن أي مشروع في الأرض يأتي إليه إنسان دون أن يكون هدفه واضحاً بيّناً سيكون مشروعًا أقرب للفشل منه للنجاح، وسيظل النجاح في أيّ مشروع مرهونًا بعظمة الهدف ووضوحه والقدرة على تحديد نهايته، وعلى كل إنسان أن يدرك أنه لن يصل إلى عناق أمنيته، ولن يحتفل بنهاية مشروعه الذي يريد إلا بعد أن يُعنى بقضية الأهداف ويسعى في ضبطها من بداية الطريق..!
وكم هي المشاريع التي بدأها الإنسان مع نفسه، أو في مجتمعه أو على مستوى أمته ولم تسنح الفرص بعد بعناق نهايتها إلى اليوم؟!
كم من إنسان يعيش على حلم ختم القرآن الكريم حفظاً وضبطاً، ولم تأت النهاية من سنوات؟
وكم من إنسان نصب له مشروعاً عمرياً وما زال مشروعه في طيات الأوراق؟ وكم هي الأمنيات والمشاريع التي تعتلج في ذاكرة كل واحد منا ويتنفسها أملاً كبيراً في مستقبل حياته ولم يبدأ بعد؟!
إن رمضان جاء ليقول لنا: إن صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً، وتحقيق التقوى من خلال ذلك هو الهدف الأكبر في مدرسته، وعلى كل من أراد أن يختبر قدرته على تحقيق هذه القيمة في كل حياته أن يجرّب تحقيق الهدف العريض في هذا الشهر.
إن علينا أن نستقبل شهر رمضان وبين يدي الواحد منا مشروعه الذي يحلم به، ويبدأ يخطط لكتابة أهدافه وتحقيق غاياته، وبدون ذلك سيظل أثر هذه المدرسة ضعيفاً في حياتنا وواقعنا، إن القيم التي يؤكّد رمضان على بنائها في حياتنا قيمة الفرص، وأن رقي الإنسان في ساحات الآخرة وقف على استثمار الفرص في حياته: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (صحيح البخاري: 2024)
و«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (صحيح النسائي: 5042).
فتأمل هذه الفرص وهي تتعرّض لكل واحد منا في عرض الطريق وتدعوه لعناقها، والمكافأة حلم كل إنسان في الدنيا كلها، إن الفرص تحتاج إلى عاقل فطن يستثمرها عند أول بريق لها، وقد بلغك أن هذا الذكر الحسن لعكاشة -رضي الله عنه- كله كان من طيات فرصة واحدة حين قال نبيك -صلى الله عليه وسلم-: «يدخل الجنة سبعون ألفاً بدون حساب…»، والصحابة متوافرون يسمعون الحديث، وما إن لاحت هذه الفرصة لعكاشة إلا وقام يجري لعناقها: «يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ أن يجعلَني منهم، قال: اللهم اجعله منهم»، ويقبل الآخر يجري لعناق هذه الفرصة فيقول له النبي-صلى الله عليه وسلم-: «سبقك بها عكاشة» (صحيح مسلم: 216).
إن رمضان يدعونا إلى استثمار ثلاثة فرص تزدلف بين أيدينا، وهي كلأ مباح لكل إنسان ما دامت أيام الشهر تنبض بالحياة، وإن هذه القيمة حقيقة بأن تمتد إلى كل لحظة من حياتنا، وأن نخرج إلى الأرض وعين الواحد منا مفتوحة على الفرص التي يهبها الواقع، وتمنحنا الحياة عبقها في الطريق، وأن لا نسمح بحال من الأحوال لأي فرصة تتعرّض في الطريق وندعها مهما كانت ظروفنا تلك اللحظة التي نلقى فيها الفرص ماثلة، وهي قيمة حقيقة بأن نربي نفوسنا عليها، وأن نخرج من مدرسة رمضان وقد تعلمنا الدرس بأوضح ما يكون.
إن رمضان يبني في نفوسنا قيمة الوقت، ويؤكّد علينا أنه أنفس ما عني به إنسان في حياته.
إن الدقائق مؤثّرة في حياة الإنسان بأعظم مما نتصوّر، فلو أن إنساناً تقدم الأذان بدقيقة أو بأقل منها وأفطر لكانت النهاية بطلان عبادته في ذلك اليوم، ومثل ذلك لو أنه أكل أو شرب بعد بداية الأذان في الفجر لكان لا قيمة ليومه كله ولا عبرة به بذلك اليوم كله، وكل ذلك عناية ببناء هذه القيمة في نفوس المسلمين وتربية لهم على تمثلها في سائر حياتهم.
إن كل ناجح ترمقه أبصارنا اليوم في أرض الواقع ستجد هذه القيمة في حياته العلمية والعملية أوسع ما يكون.
وإنني أذكّر بأن هذه القيمة تاريخ تصنع الأفراد والأمم متى ما حظيت بحقها من العناية والاهتمام، ولا خيار لأحد يريد صناعة الواقع عن هذه القيمة مطلقاً، وكُتب التاريخ تعطيك قصتها كاملة وخبرها وافياً في حياة الرجال.
هذه ثلاث قيم تصنع تاريخ إنسان، وتكتب سيرته بمداد من ذهب، وتعطر الحياة كلها بأنفاس التحدي وتصنع التغيير للأحلام التي ينشدها كل حي عاشها واقعاً في رمضان، وما أتيت على كل ما أردت من عنوان هذا الموضوع لولا أنني أدرك صغر المساحة التي تستقبل حرفي، وأدعو كبار الأمة ورجالها وصناع تاريخها أن يفتحوا صفحات قلوبهم وصفحات دفاترهم لتدوين هذه القيم من خلال الدراسة النظامية في فناء هذه المدرسة الكبرى في الحياة.
والله المستعان
الشيخ مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
أختي الغالية
بـــــــــــــــــــــــــــــ الله فيك ــــــــــــــــــــارك
وجزاك الله الفردوس الأعلى من الجنة
طرح قيم ومهم جداَ ماشاء الله تبارك الرحمن ..
نسأل الله أن يوفق الجميع ..
ويتقبل منهم طاعاتهم وصلواتهم ودعواتهم وصالح أعمالهم …
اللهم آمين..
دمـتِ برعـاية الله وحفـظه
وجزاك الله الفردوس الأعلى من الجنة