السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ترى كثيراً من الناس يقعون في مصائب وأزمات؛ فيدعون الله كثيراً، فإذا تأخرت الإجابة استحسروا، وتركوا الدعاء، وقالوا: لا يريد الله أن يستجيب لنا، ونحو ذلك من الأمور، أولئك أناس أساؤوا الظن بربهم، ولو أحسنوا الظن بالله لما تركوا الدعاء.
إخواني: إن حسن الظن بالله تعالى من صميم التوحيد، حسن الظن بالله من واجبات التوحيد، إن الله تعالى مدح الذين أحسنوا الظن به، وأثابهم، وذم الذين أساؤوا الظن به، فقال الله عنهم: (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [آل عمران:154]، فحسن الظن من العبادات القلبية التي طالما غفل عنها كثير من المسلمين، قال الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي؛ فليظن بي ما شاء"، وقال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله"، وقال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني"؛ ولذلك ترى كثيراً من الناس يقعون في مصائب وأزمات؛ فيدعون الله كثيراً، فإذا تأخرت الإجابة استحسروا، وتركوا الدعاء، وقالوا: لا يريد الله أن يستجيب لنا، ونحو ذلك من الأمور، أولئك أناس أساؤوا الظن بربهم، ولو أحسنوا الظن بالله لما تركوا الدعاء، لو أحسنوا الظن بالله ما وقعوا في الاستحسار، لو أحسنوا الظن بالله ما يأسوا من رحمة الله، هؤلاء المرضى من أصحاب الأمراض المزمنة الذين يدعون الله بالشفاء، وقد يؤخِّر الله الشفاء عنهم لحكم يعلمها -سبحانه وتعالى-، فإذا وجدوا ذلك تركوا الدعاء، وقالوا: لا نُشفى؛ أساؤوا الظن بالله، أساؤوا الظن بربهم -تبارك وتعالى-، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". سبحانه وتعالى، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11]، "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني"، "والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، "ومن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً".
فيا عبد الله المذنب، الذي أسرف على نفسه: لو بلغت ذنوبك عنان السماء، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، وكثير من العصاة إذا أرادوا أن يتوبوا قالوا: هل يُغفر لنا؟!
هل يغفر الله لنا؟!
كثرت ذنوبنا، إنها مع كثرتها نحن نستبعد أن تُغفر لنا، هؤلاء أناس أساؤوا الظن بالله، هؤلاء أناس ما عرفوا قدر الله، يئسوا من رحمة الله، إذا كان الله يقول: إنه يغفر الذنوب جميعاً، فلماذا نستبعد ونستكثر أن يغفر الله ذنوبنا؟!
لماذا لا نقبل على الله وندعوه ونتوب إليه ونستغفره؟!
والله تعالى يتولى المغفرة، ويتولى ستر الذنوب وستر العيوب -سبحانه وتعالى-، فإذًا لا تيأس -يا عبد الله- مهما كانت ذنوبك من مغفرة الله.
ويتأكد حسن الظن بالله عند نزول الموت تأكداً شديداً وعظيماً، وقد ورد في ذلك من النصوص الشرعية ما يجعل المسلم يذكر نفسه دائماً، ويقول لنفسه: اذكري يوماً إذا نزل الموت أن تكوني حسنة الظن بالله، قال -عليه الصلاة والسلام-: "لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله -عز وجل-"، يحسن الظن بالله كما فعل الشاب الذي نزل به ما نزل، فدخل عليه -صلى الله عليه وسلم-، وسأله عن حاله: "كيف تجدك؟!"، قال: والله -يا رسول الله- إني أرجو الله وأخاف ذنوبي -خوف ورجاء-، فأخبر -عليه الصلاة والسلام- أنهما "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف".
وعن حيان أبي النضر قال: خرجت عائداً ليزيد بن الأسود، فلقيت واثلة بن الأسقع -واثلة صحابي- وهو يريد عيادته -يريد أن يعود المريض يزيد بن الأسود-، فدخلنا عليه، فلمّا رأى واثلة بسط يده، لما أُخبر بدخول واثلة بسط يده يشير إليه، فأقبل واثلة حتى جلس، فأخذ يزيد بكفي واثلة، واثلة الذي لامست كفاه كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ بكفي واثلة، فجعلهما على وجهه، فقال له واثلة: كيف ظنك بالله؟! قال: ظني بالله والله حسن، قال: فأبشر، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -جل وعلا-: أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله"، وفي رواية أخرى صحيحة عن حيان قال: قال واثلة بن الأسقع: قُدْ بي إلى يزيد بن الأسود؛ فإنه قد بلغني أنه به لمم -يعني نزل به المرض-، قال: فقدته، فدخل عليه وهو ثقيل، فقلت له: إنه ثقيل قد وُجِّهَ، وقد ذهب عقله، قال: نادوه، فنادوه، فقلت: إنَّ هذا واثلة أخوك، قال: فأبقى الله من عقله ما سمع أنَّ واثلة قد جاء، قال: فمد يده، فجعل يلتمس بها، فعرفت ما يريد، فأخذت كف واثلة، فجعلتها في كفه، وإنما أراد أن تقع يده في يد واثلة لموضع يد واثلة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يضعها مرة على وجهه، ومرة على صدره، ومرة على فيه، قال واثلة: ألا تخبرني عن أي شيء أسألك عنه؟! كيف ظنك بالله؟! قال: أغرقتني ذنوبي، وَأَشَفْتُ على هلكة، لكني أرجو رحمة الله، قال: فكبر واثلة، وكبر أهل البيت بتكبيره، قال: الله أكبر! سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن ظان ما شاء".
فلا يجوز لمسلم أن يظن بربه إلا خيراً، فإن ظن بالله خيراً كان الله عند ظن هذا العبد، لكن هل هذا الأمر يقودنا إلى التواكل؟! هل يقودنا إلى الاتكال على الرحمة، وترك العمل، والوقوع في الكبائر والذنوب؟!
كلا والله، هذا حرام لا يجوز، فإن الاتكال إنما يكون مع الإحسان، يتخذ الأسباب الشرعية، ويحسن في العمل، ثم يتكل على الله، يتكل على رحمته، يحسن الظن بربه -سبحانه وتعالى-، يحسِن الظن أن الله لن يضيع له عمله، ويجعله هباءً منثوراً، يحسن الظن أن الله سيجازيه على عمله، يحسن الظن بالله أنه سيضاعف له الحسنات، فهو يعمل، ثم يحسن الظن بالله في أن أعماله تبقى، وأن الله يجازيه عليها، هذا رجاؤه بالله، هذه عقيدته بالله، هذا ظنه بربه، هكذا يكون المؤمن.
أما أن الإنسان يقول: أحسن الظن بربي وهو يسيء العمل، ويُصر على الكبائر، ويعمل الظلم، ويقوم بالمخالفات الشرعية، فإن وحشة هذه المعاصي والظلم والحرام ستمنعه من إحسان الظن بربه، ولن يكون الإحسان صحيحاً مطلقاً، وهذا العبد آبق عن ربه، شارد عن الله، خارج عن طاعة الله، كيف يجمع وحشة في قلبه وإحساناً وهو يحسن الظن بربه؟!
كيف يجمع حسن الظن بربه، ووحشة المعاصي تملأ قلبه؟!
هذا لا يكون أبداً؛ ولذلك فإن الذي يبارز الله بالمعاصي لا يمكن أن يحسن الظن بالله، إذا عادى أولياء الله، ووالى أعداء الله، كيف يحسن الظن بالله؟!
لا يجتمعان في قلب واحد، قال الله لقوم من الكفرة: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) [فصلت:23]، ماذا كانوا يظنون؟! أن الله لا يعلم كثيراً مما يعملون؟! يظنون أن الله ما سمعهم لما قالوا، ولا رآهم لما عملوا، وهم سادرون في غيهم؟!
أيها المسلمون: ينبغي أن نتأمل هذا الموضع، كيف نجمع بين إحسان العمل، والقيام بالصالحات، وأداء الفرائض، وفعل المستحبات، والبعد عن المحرمات، ونحن نحسن الظن بالله في نفس الوقت، نحسن الظن بالله، نشعر أنه يسمع كلامنا، ويرى مكاننا، ويعلم سرنا وعلانيتنا، لا يخفى عليه شيء من أمرنا -سبحانه وتعالى-، ونحن نحسن الظن به أن يجازينا على أفعالنا الحسنة، ولن يضيعها لنا، وفي نفس الوقت نحن نخاف الله، ونتذكر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كان عنده دنانير، ثم غشي عليه، فلما قام وعافاه الله سأل عنها: هل فرقت على وجهها، وصرفت إلى مستحقيها؟!
فلما علم أن عائشة انشغلت عن ذلك، قال: "ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟!"، فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة إذا لقوا الله، ومظالمهم هذه محسوبة مكتوبة، مرصودة عند ربهم، قد جاءت بين أيديهم حاضرة، مكتوبة مسطرة: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
ومن أوجه الظن الحسن بالله كذلك أن تحسن الظن بالله في رزقك، وأنت تطلب الرزق تحسن الظن بالله أن الله سيرزقك، ويسوق رزقك إليك، وأنه سبحانه لن يضيعك، فإن الله لا يضيع من يتوكل عليه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، ومن يتوكل على الله يرزقه من حيث لا يحتسب.
واستمعوا إلى هذه القصة: قال أبو هريرة -وهذا الحديث قد ورد مرفوعاً وفيه شهر بن حوشب حسَّن حديثه بعض أهل العلم، وورد موقوفاً على أبي هريرة بإسناد حسن-، قال أبو هريرة: "بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره، فدخل على امرأته جائعاً قد أصابته سغبة شديدة، فقال لامرأته: أعندك شيء؟! قالت: نعم أبشر، أتاك رزق الله"، المرأة ما عندها شيء لكن ظنت بالله ظناً حسناً، وتوكلت على الله توكلاً قوياً، "قالت: أبشر أتاك رزق الله، فاستحثها، فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شيء، قالت: نعم هنيهةً"، اصبر اصبر -ترجو رحمة الله- ترجو رجاءً قوياً، امتلأ قلبها باليقين أن يأتيها رزق من الله، "حتى إذا طال عليه الطوى والجوع، قال: ويحك، قومي فابتغي إن كان عندك خبز فائتيني به؛ فإني قد بلغت وجهدت، فقالت: نعم الآن ينضج التنور". انتظر لا تعجل على الفرن، "الآن ينضج التنور؛ فلا تعجل، فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أيضاً أن يقول لها"، يرجع ويطلب مرة أخرى، لما ظنت أنه سيقول الآن لها مرة أخرى، "قالت هي من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري"، وتنورها ليس فيه إلا الحجارة، "فقامت فوجدت تنورها ملآن جُنُوب الغنم، ورحييها تطحنان" الرحيان تطحنان، والتنور ملآن جنوب الغنم، "فقامت إلى الرحى فنفضتها، وأخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم"، قال أبو هريرة: "فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد -صلى الله عليه وسلم-: "لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم القيامة". تبقى تطحن إلى يوم القيامة.
من قنط من رحمة الله، وأيس من روح الله؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله يعذب أولياءه وعباده الصالحين وهم محسنون؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله يترك خلقه سدى معطلين لا رسول ولا كتاب؛ فقد أساء الظن بالله.
فتوكلوا على الله -يا أيها المسلمون- في تحصيل الأرزاق، لا تنسوا حسن الظن بالله، إذا توجهت إلى عمل، وإلى تحصيل مكسب أحسن الظن بالله، تفكّر وتمعّن، وتيقّن وآمن أن الله سيرزقك، وتوجّه وابتغِ الأسباب، وثق بأن الله سيرزقك، لكن الذين الآن يدخلون بعض أبواب الرزق فلا يوفقون، فماذا يقولون في أنفسهم: لا فائدة، بحثنا، وهم يشكون في أن الله سيرزقهم، ظنهم بالله بدأ يسوء، فهؤلاء ربما ينتكسون، ويرتدون على أعقابهم، فلا يأتيهم شيء، وأكثر الناس ظنهم بالله سيئ، فمن قنط من رحمة الله، وأيس من روح الله؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله يعذب أولياءه وعباده الصالحين -وهم محسنون- فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله يترك خلقه سدى معطلين بلا رسول ولا كتاب؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله لن يجمع الخلق بعد الموت، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله سيضيع عمله الصالح، وقد امتثل أمر ربه بالعمل، وأنه سيبطل عمله دون سبب بلا رياء ولا شيء؛ فهذا إنسان مسيء الظن بربه، ومن ظن أن الله يؤيد أعداءه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله يعذب من أفنى عمره في طاعته؛ فقد أساء الظن بالله، ومن ظن أن الله يرفع أبا جهل في أعلى عليين، وأنه ينزل أبا بكر في أسفل السافلين مثلاً؛ فهذا مسيء الظن بالله، هكذا يعتقد بعض الضلال، هكذا من عقائدهم، يقولون: يفعل ما يشاء، يعني: يمكن أن يفعل كذا، كلا هو يفعل ما يشاء، لكن شاء بحكمته ورحمته أنه يجعل أهل الإيمان في الجنة وأهل الكفر خالدين مخلدين في النار.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل ظننا به حسناً، اللهم اجعل ظننا بك حسناً، واغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، البشير النذير، والسراج المنير، دعا إلى الله، وآمن بالله، وعمل لله، وجاهد في سبيل الله، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: إن بعض الناس من سوء ظنهم بالله إذا رأوا في الواقع أمورًا تنكرها عقولهم المريضة خرج ظنهم السيئ بالله على ألسنتهم، قال ابن عقيل -رحمه الله-: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلَّدة بالفضة والذهب، وداراً مشيدة مملوءة بالخدم والزينة لفاسق من الناس، قال: انظروا إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم! قال: كيف يعطيهم الله هذا وهم لا يستحقون؟! أفعالهم سيئة، ظلمة، كفرة بأيديهم اقتصاد العالم! كفرة بأيديهم اقتصاد العالم، فيقول بعض أصحاب العقول المريضة: كيف هو يلعنهم في كتابه، ومع ذلك يعطيهم؟! نقول: افهم يا مسكين، يعطيهم استدراجاً ليزدادوا إثماً: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا) [آل عمران:178].
ويقول بعض أصحاب العقول المريضة: فلان يصلي الجمعة والجماعات، ولا يؤذي النمل، ولا يأخذ ما ليس له، ويؤدي الزكاة، ويجاهد ويحج، ومع ذلك هو فقير، فنقول: يا مسكين: انظر إنه يبتلي من خلقه ما يرفع درجاتهم، ما يرفع بهذا الابتلاء درجاتهم، ويعظم لهم حسناتهم، ويبتلي صبرهم ليجازيهم الجزاء الأوفى.
قال أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله-: "وهذه حالة قد شملت خلقاً كثيراً من الجهال أولهم إبليس؛ فإنه نظر بعقله، فقال: كيف يفضل الطين على هذه النار المضيئة؟! فاتهم حكمة الله، واعتقد أنه أفضل ممن خلقه الله بيده، وهكذا من الخلق من يتابعه".
قال ابن الجوزي: "دخلت على إنسان كثير الاعتراض على الله، وكان عليه جَرَب -مصاب بمرض الجرب-، فقال: علام يبتليني؟!".
ولما جاء لبعض الناس طعام، وهو في مرحلة متقدمة من العمر قد سقطت أسنانه، قال: بعث لي هذا في وقت لا أقدر على أكله! اعتراض على الله -سبحانه وتعالى- إساءة ظن بالرب.
قال: كان رجل قد قارب الثمانين سنة كثير الصلاة والصوم، فمرض، واشتد به المرض، -العبادة لوحدها دون عمل القلب لا تكفي، العبادة بدون عقيدة صحيحة لا تكفي-، اشتد به المرض، فتلفظ هذا المسكين على فراش المرض قال: إن كان يريد أن يميتني فليمتني، أما هذا التعذيب فليس له معنى! لا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان!
ورأيت من ضاق عليه رزقه يقول: إيش هذا التدبير؟! يتهم تدبير الله -سبحانه وتعالى-، قال: وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما يقولون: ما عدنا نريد الصلاة، ما عدنا نريد التدين، إذا كان هذا آخرة التدين.
وما فهم ذلك الأحمق أن الله -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء، وأنه يبتلي عباده ليخرجوا ما في صدورهم، إن الله سبحانه يعذب على الأعمال عندما تقع، فالله يعلم ماذا يفعل العباد، يعلم ماذا سيفعلون، لكن يريد أن يظهر علمه في الواقع لكي يكون العذاب والنعيم على هذه الأعمال الظاهرة التي تظهر في الواقع، حتى لا يأتي إنسان يوم القيامة، فيقول: رب: عذبتني على شيء في صدري ما أخرجته، عذبتني على شيء أكننته وما أظهرته، فيقول الله له: هذه أعمالكم مسطرة، مجموعة كلها.
وكذلك فمن ظن أن الناس مبخوسي الحق، يقول: أنا حظي ناقص وقليل، وأنني لا أستحق هذا التعذيب، أو هذا التضييق في الرزق، أو يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونحو ذلك، فهذا إنسان من إساءته الظن بربه قال هذا الكلام، قال هذا الكلام بدلاً من أن يتوب إلى الله.
ومن ظن أن الله لن ينصر أولياءه، ولن ينصر الدعاة إليه، وأن الله لن ينصر المؤمنين فهو مسيء الظن بالله.
ومن إذا تأمل الشرق والغرب قال: إن الدولة ستكون لهم طيلة الوقت، فهو مسيء الظن بالله.
من قال: إن الله لن ينصر المؤمنين، وسيبقون مستغلين مستضعفين، مقهورين مسجونين، عليهم سيوف العذاب، وأنواع الابتلاء، وأن الله لن يظهرهم في الدنيا، فهذا مسيء الظن بالله: (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحـج:15].
هذا الذي يظن أن الله لن ينصر رسوله، ولن ينصر دينه ليعلق حبلاً في السقف، ويلفه حول عنقه، فيشنق به نفسه، هكذا يقول الله لهم: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ)، فالله ناصر دينه.
والذين يقولون اليوم: المسلمون ينتقلون من ابتلاء إلى ابتلاء، المسلمون يخرجون من محنة، ويدخلون في محنة أخرى، المسلمون يقتلون في بلد ثم ينتقل التقتيل إلى بلد آخر، المسلمون لا أمل لهم في الظهور ولا النصر، نقول: هذا من سوء ظنك بالله، ألم يتعهد الله بأن ينصر من ينصره في الدنيا قبل الآخرة!! (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة:21]، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]، والله الذي لا إله إلا هو ليأتين نصر الله، والله الذي لا إله إلا هو ليقومن الإسلام قومة يمحو الكفر، فلا يكون له وجود، هكذا أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
فاحذروا -أيها الإخوة- أن يتسلط اليأس إلى أنفسكم إذا رأيتم النكبات والبلايا تنزل بالمسلمين الواحدة تلو الأخرى، ولا نسمع بنصر كبير يحصل للمسلمين، نقول: انتظروا، فلتعلمن نبأه بعد حين، وستأتي الأنباء في عمرنا، أو في عمر من بعدنا بنصرة الإسلام وأهله؛ لأن الله تعهد بأن ينصر أولياءه، فلا بد أن ينصرهم، لا بد أن يأتي النصر، ولن تبقى الدولة للكفرة إلى آخر الزمان، يستحيل ذلك، مهما كان عندهم من التخطيط والزراعة، والصناعة والإدارة، والقوة والأسلحة، فلن تستمر لهم الدولة؛ لأننا على يقين بأن سينصر دينه، على يقين بأن الله سيظهر أولياءه.
انظروا إليهم الآن كيف تسقط دولهم، فتتلاشى، وتتمزق، وتتقطع، وانظروا إلى أشخاصهم كيف يكون الواحد منهم قد جمع من أسباب القوة ما جمع حتى ظن أنه سينتخب في المرة القادمة، فيسقطه الله -سبحانه وتعالى-، يرفع أقواماً، ويضع آخرين، (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]، (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، لو دامت لغيره ما وصلت إليه، فلا تدوم لأحد، ولا يبقى إلا الله ملك الملوك، يقول الله إذا طوى السماوات والأرضين بيمينه يوم القيامة يقول: "أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!"، فلا يجيبه أحد، (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم) [غافر:16]، لا يجيبه أحد؛ لأن الناس كلهم موتى، فيجيب نفسه سبحانه: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر:16].
فإذا كان كل شيء بيد الله، فنحن علينا العمل -أيها الإخوة- والاجتهاد، والدعوة إلى الله، والقيام بحق الله، والله سينصر دينه، لا نقلق ولا نجزع؛ فالله سينصر دينه ولو بعد حين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أوليائك، وحزبك المفلحين، اللهم أظهر دينك على الدين كله، اللهم ارفع سيف الذل عن المسلمين، اللهم كن معهم وانصرهم، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، اللهم انصر ضعيفهم، اللهم إنا نسألك أن ترينا يوماً قريباً فيه فرج المسلمين، اللهم قرّب ذلك اليوم يا رب العالمين، وأقر أعيننا بنصرة الإسلام والمسلمين.
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
أختي الغالية
جزاكِ ربي كل الخير وكتب أجركِ
وسلمتي ياقلبي موضوع مهم
وانار الله قلوب الجميع بذكر الرحمن
جزاك الله كل خير فائدة عظيمة جعلها الله في موازين حسناتك
لكِ ودى وتقديرى وتقييمي لك ياقلبي,,,
فلآ تح ــرمنآ من جديد تميزك
لروح ــك بآقآت من الجوري