الصيام و مراقبة المولى تبارك وتعالى في السر والعلانية
إن الصيام عبادة وثيقة الصلة بما يرمي إليه الإسلام
من النواحي الاجتماعية البعيدة المدى،
وعظم تدبير الحياة، يقول المولى تبارك وتعالى:
} وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ { ( البقرة: 184 ).
إن في الصيام تدريب على مراقبة المولى تبارك وتعالى، في السر وفي العلانية وهذا التدريب
للإنسان يكون أكثر وضوحاً في الصيام منه في سائر العبادات،
فهو يغرس في نفس الصائم الصبر على طاعة الله جل شأنه، ويتعلم
قوة الإرادة، وضبط وحكم النفس التي تسرف في شهواتها طوال العام،
ففي كثير من الأحيان يكون الطعام والشراب في متناول الصائم،
وبين يديه بعيداً عن أنظار الناس، ومع ذلك يكف عن تناولهما.
وما يفعل الصائم ذلك إلا خشية من الله عز وجل، وعلمه بأنه يراه
ويسمعه ومطلع على أفعاله، وعلى سره وجهره، فيزداد إيمانه
وخوفه، فلا يخاف غير الله جل شأنه، فينال رحمته ورضاه، بفضل
تأثير هذه العبادة في نفسه، وهذا ما يفسر قول المولى تبارك
وتعالى في الحديث القدسي: " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم
فإنه لي وأنا أجزى به، يترك طعامه وشرابه من أجلي ".
وقد ذكر الإمام الغزالي في حكمة نسبة الصيام لله عز وجل معنيين:
أحدهما: أن الصوم كف وترك، وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد،
وجميع الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى من أعينهم، والصوم
لا يراه إلا الله عز وجل فإنه في الباطن بالصبر المجرد.
والآخر: أنه قهر لعدو الله عز وجل، فإن وسيلة الشيطان – لعنة الله – للشهوات.
وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، ولذلك قال
: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع
" فإذا كان الصوم على الخصوص قمعاً للشيطان، وسد مسالكه،
وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل.
فمن هذه الجوانب وغيرها من مزايا الصيام كانت صلته بأهداف الإسلام
العليا في تدبير الحياة، وأن المتأمل في هذه المزايا ليلمح فيها ناحيتين متضادتين:
الأولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى
وتتخذ طابعاً مادياً، فنرى أن مشتهيات النفس التي يمتنع الصائم
عنها هي من أهم ما تفضل المولى تبارك وتعالى به علينا من الآلاء
والنعم، وما أجدر الإنسان أن يدرك قيمتها، ويقوم بحق شكرها
للخالق المنعم جل وعلا، لأن النعم لا تدرك قيمتها إلا بفقدها،
فالأعمى هو الذي يحس بجلال نعمة البصر، المريض هو الذي
يدرك عظمة الصحة، والإنسان لا يشعر بلذة الرخاء والرفاهية
إلا إذا ذاق مرارة الحرمان والشدة، ولا يتذوق حلاوة النصر
إلا من صدم بقسوة الهزيمة.
وهذه هي سنة الحياة وطبيعتها، فالأشياء لا تتميز إلا بأضدادها،
والصائم لا يعرف قيمة الطعام والشراب إلا عندما يذوق مرارة الجوع،
وحرارة العطش، فيدرك نعم الله عز وجل فيجيء شكره على
هذه النعم صادقاً خالصاً من القلب، ولعل ذلك هو الذي جعل رسول الله
يرفض أن تصير بطحاء " مكة " له ذهباً ويقول: " لا يا رب،ولكن أشبع يوماً،
وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ".
الثانيـــــــــــــــــــــــــــــــة
وتتخذ جانباً روحياً معنوياً، ويتضح هذا الجانب في تشبيه الصائم بالملائكة،
لأن الإنسان مكون من روح وجسد، فإذا استجاب الإنسان لغرائزه، وانغمس
في شهواته مهملاً الجانب الروحي، كان إلى الحيوان الأعجم أقرب،
أما إذا ارتقت نفسه وعلت روحه، وسما بتصرفاته إلى كل ما يحقق غذاء
روحه، بتحكمه في عواطفه وقهر غرائزه أمام سلطان عقله وروحه،
كان إلى الملائكة أقرب.
ونجد أيضاً الجانب الروحي في تأدب الصائم بصفة الصمدية،
بالإضافة إلى تربية النفس، وكسر شهواتها بالجوع والحرمان.