الحمد لله الذي شرحَ صدور العابدين، وأنزلَهم نُزُل المُقرَّبين، أحمده سبحانه حمد الشاكرين الذاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمةٌ قامت بها السماوات والأرض، ولأجلها انقسَمَت الخليقةُ إلى مؤمنين وكافرين، ولأجلها نُصِبَت الموازينُ ووُضِعَت الدواوين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، وأمينُه على وحيِه، وخيرتُه من خلقِه، أرسله الله رحمةً للعالمين، وإمامًا للمُتَّقين، وحُجَّةً على الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أيها المسلمون: انشراحُ الصدر، وسكونُ النفسِ، وطُمأنينةُ القلبِ؛ أملُ كل من عاشَ على الغَبراء، وحاجةُ كل ماشٍ في مناكبِها، باحثٍ عن طِيبِ العَيشِ فيها، مُريدٍ حِيازةَ أوفَى حظٍّ من السعادة لنفسه، وإدراكِ أعظمِ نصيبٍ من النجاح.
وإذا كان للناسِ في أسبابِ تحقيقِ انشراحِ الصدر مذاهبُ واتجاهاتٌ شتَّى؛ فإن للصفوةِ المُتَّقين أولي الألباب من المعرفةِ الراسخةِ بأسبابِ ذلك وبواعِثِه ما يجعلُ سبيلَهم إليه أقومَ السُّبُل وأهداها وأحراها ببُلوغِ الغايةِ فيه؛ لأنه سبيلٌ مضى عليه وأرشدَ إليه رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامه عليه-، وهو الحريصُ علينا، الرؤوفُ الرحيمُ بنا، الذي قال في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والنسائي في سننهما بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلوات الله وسلامه عليه- قال: "إنما أنا لكم بمنزلةِ الوالدِ أُعلِّمُكم…". الحديث.
والذي كان -صلوات الله وسلامه عليه- أشرحَ الخلقِ صدرًا، وأطيبَهم نفسًا، وأنعمَهم قلبًا؛ لِمَا جمَعَ اللهُ له من أسبابِ شرحِ الصدر مع ما آتاه من النبُوَّة والرسالة -عليه أكمل الصلاة وأتم السلام-.
إنها -يا عباد الله- أسبابٌ يأتي في الطليعةِ منها: الهُدى والتوحيد؛ كما قال سبحانه: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125]، وقال -عز وجل-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].
أي: لا يستوي هو ومن قسَا قلبُه بالبُعد عن الحق والإعراضِ عن الهُدى، كما قال -عزَّ اسمُه-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].
إنه نورُ الإيمان الذي يُضيءُ اللهُ به قلوبَ من شاءَ من عباده، فيشرحُ به صدورَهم، وتطيبُ به نفوسُهم، وتنعَمُ به قلوبُهم.
وفي الإنابةِ إلى الله، ومحبَّته، والإقبالِ عليه، تأثيرٌ عجيبٌ في انشراحِ الصدرِ، وكلما كانت المحبةُ أقوى كان انشراحُ الصدرِ وطيبُ النفسِ كذلك، وعلى العكسِ منها: الإعراضُ عن الله تعالى، والتعلُّق بغيره؛ فإنه من أعظمِ أسبابِ ضيقِ الصدر؛ لأن مَنْ أحبَّ شيئًا غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ في محبَّته.
فهما -كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله-: "هما محبَّتان: محبَّةٌ هي جنةُ الدنيا، وسُرورُ النفس، ولذَّة القلبِ، ونعيمُ الروح وغذاؤُها، ودواؤُها؛ بل حياتُه، وقُرَّةُ عينِها، وهي محبَّةُ الله وحده بكل القلبِ، وانجِذابُ قوى المَيْل والإرادة والمحبِّة كلها إليه، ومحبَّةٌ هي عذابُ الروح، وغمُّ النفسِ، وسِجنُ القلبِ، وضيقُ الصدر، وهي سببُ الألم والنَّكَد والعَناءِ، وهي محبَّةُ ما سواه". اهـ.
فليختَرِ اللَّبيبُ العاقلُ لنفسِهِ، وليجتهِد لها، فإنه ساعٍ في خلاصِها، راغبٌ في حِيازةِ الخيرِ لها.
وفي الإحسانِ إلى الخلقِ في كل دُروبِ الإحسان بنفعهِم بكل ما يُمكِنُ نفعُهم به من مالٍ، وجاهٍ، وتعليمِ علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهي عن مُنكَرٍ، وصلةٍ، وصدقةٍ، وغيرها، في ذلك تأثيرٌ عجيبٌ في شرحِ الصدرِ، وسرورِ النفسِ.
وقد ضربَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً لانشراحِ صدر المُتصدِّق وضيقِ صدرِ البخيلِ، فقال في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثَلُ البخيلِ والمُتصدِّق كمثَلِ رجلَيْن عليهما جُنَّتان من حديدٍ، إذا همَّ المُتصدِّقُ بصدقةٍ اتَّسَعت عليه وانبَسَطت، حتى تُعفِّيَ أثرَه، وإذا همَّ البخيلُ بصدقةٍ تقلَّصَت وانضمَّت يداه إلى تراقِيه وانقبَضَت كلُّ حلقةٍ إلى صاحبتِها، فيجهَدُ أن يُوسِّعَها فلا تتَّسِع".
وإن ذكرَ الله تعالى على كل حالٍ لهُوَ من أقوى أسبابِ انشراحِ الصدر، وقد بيَّن ربُّنا -تبارك وتعالى- حُسنَ جزاء الذاكرِ له، وعِظَم منزلته عنده بقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
ومَنْ ذكَرَ الله تعالى كان أجدرَ الناسِ بكل انشراحِ صدرٍ، كما أن الغفلةَ عن ذكره سببٌ لضيقِ الصدرِ وهمِّه وغمِّه، وإن أشرفَ الذكرِ وأعظمَه: تلاوة كتابِ الله تعالى بتدبُّرٍ يبعَثُ على العملِ؛ فإن التلاوةَ الحَقَّةَ -كما قال أهلُ العلم-: هي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيِه، وائتمامًا به، حيثُما قادَ انقدتَ له؛ فتلاوةُ القرآن تتناولُ لفظَه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مُجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا.
ألا وإن الصلاةَ التي هي عمادُ الدين، وخيرُ أعمال العباد كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "استقيمُوا، ولن تُحصُوا، واعلموا أن خيرَ أعمالِكم الصلاة…". أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيحٍ.
إن الصلاةَ التي تُقامُ على الوجهِ الكاملِ ظاهرًا وباطِنًا مع جماعة المُسلمين في المساجد مُفرِحةٌ للنفسِ، مُذهِبةٌ للكسل، شارِحةٌ للصدر، مُغذِّيةٌ للرُّوحِ، مُنوِّرةٌ للقلبِ، حافِظةٌ للنِّعمة، دافِعةٌ للنِّقمةِ، وما استُجمِعت مصالحُ الدنيا ولا الآخرة، ولا استُدفِعَت شرورُهما بمثل الصلاة.
كما قال -رحمه الله-: "وفي العلمِ المُقتبَس من مشكاةِ النبُوَّة المُنوَّر بأنوار الوحيَيْن فيه من عوامل شرحِ الصدر ما لا مُنتهَى له، ولا حدَّ يحُدُّه، وفي الإعراضِ عن الفُضولِ -أي: الزائدِ، وما لا حاجةَ إليه؛ من النظر، والكلامِ، والاستماع، والمُخالطة، والأكل، والنوم- باعثٌ قويٌّ لشرحِ الصدر؛ لأن هذه الخمسة مُفسِداتٌ للقلبِ، تُطفِئُ نورَه، وتُطفِئُ عينَ بصيرتِه، وتُثقِلُ سمعَه إن لم تُصِمَّه وتُبكِمَه، وتُضعِفُ قواه كلَّها، وتُوهِّي صحَّته، وتُفتِّرُ عزيمتَه، وتُوقِفُ همَّته، وتُنكِّسُه إلى ورائه؛ فهي عائقةٌ له عن نَيْل كماله، قاطعةٌ له عن الوُصولِ إلى ما خُلِق له وجُعِل نعيمُه وسعادتُه، وابتهاجُه ولذَّتُه في الوُصولِ إليه". اهـ.
فاتقوا الله -عباد الله-، وخُذوا بمناهج الصفوةِ المُتَّقين أُولي الألبابِ الذين استنُّوا بسُنَّة خيرِ الورَى -صلوات الله وسلامه عليه-، واقتَفَوا أثرَه، فكانوا أطيبَ الناس عيشًا، وأشرحَهم صدرًا، وأنعمَهم قلبًا؛ فما أسعدَ من سلكَ هذا المنهج، ومضَى على هذا الطريقِ.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن من أسبابِ شرح الصدر: التنزُّه عن ذَميمِ الصفاتِ، ومقبوحِ الأخلاقِ؛ فإنها من أظهر أسبابِ ضيقِ الصدرِ، فإذا لم يكن للعبدِ سعيٌ لإخراجِ تلك الصفاتِ، والبُرء من دَغَلها لم ينتفِع بشرحِ صدره، وكان قلبُه لِمَا غلَبَ عليه منها.
وإن من أقبَح تلك الصفاتِ وأشدِّها نُكْرًا: الكِبرَ، والعُجبَ، والغُرورَ، والحسدَ، والأَثَرة، وسائر أمراض القلوبِ؛ فإنها تُورِثُ ضيقًا وهمومًا وغمومًا وآلامًا.
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا أنه لا سبيلَ إلى انشراحِ الصدرِ، وسُرورِ النفسِ، وتنعُّمِ القلبِ إلا بالإقبالِ على الله؛ فإنه لا حُزنَ مع الله أبدًا، ولذلك قال تعالى حِكايةً لقول نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].
فمن كان الله معه فما لَه والحُزن؟!!
وإنما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لمن أعرضَ عن الله فوُكِلَ إلى نفسه وهواه.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
وثبتك على الصراط المستقيم
وباعد عنك الشيطان الرجيم