أدب الطفل المسلم بين التحديات والدور المفقود
ارتبطت نشأة أدب الطفل في العالم العربي في المئة سنة الأخيرة -التي شهدت ظهوره كفنٍ مستقل- بنظيره في أوربا، وهذا يعني أنه نشأ في إطار التقليد للأمم الغربية التي قطعت شوطا مهما في إبراز معالم هذا الجنس الأدبي وخصائصه النوعية ، فقد كان دافع الرواد الأوائل في العالم العربي من وراء الكتابة للطفل والترجمة إليه ، هو نقل التجربة الأوربية التي شكلت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن التالي له نموذجا نهضويا يحتذى.
غير أن هذا الإطار التاريخي لنشأة أدب الطفل أو الكتابة الأدبية للأطفال لم يكن يعني أن الرواد الأوائل في العالم العربي كان شغلهم الشاغل نقل النموذج الغربي بحذافيره، واستنساخ أدب الطفل الغربي بقضاياه وهمومه، وإنما المقصود فقط القول بأن بداية الاهتمام بالطفل والطفولة في الحقل الأدبي ارتبطت بالفكر الأوربي الذي انفتح عليه العرب والمسلمون في بداية القرن الفائت.
ثم تمت العودة إلى التراث العربي والإسلامي للاغتراف منه واستلهامه في الكتابة للطفل ،
وحتى في تلك الترجمات التي قام بها بعض الرواد للقصص والحكايات والأشعار الأوربية المكتوبة للأطفال،
مثلما فعل أحمد شوقي مع" خرافات " لافونتين الفرنسي،
بقي التراث الإسلامي الفني حاضرا في تلك التجارب، سواء من حيث المضامين والأهداف، أو من حيث الأساليب الأدبية العربية،
إلى الحد الذي يختفي فيه الفاصل بين النص المترجم والنص الثاني، كما يتضح حين نقلب "الشوقيات".
إن تجربة الرعيل الأول من الكتاب والشعراء العرب في التأليف للأطفال كانت تجربة أصيلة ، ولعل مرد ذلك – من وجهة نظري على الأقل –
إلى أن هؤلاء كان حافزهم التربية والتعليم وتكوين جيل متشبع بالقيم والمثل الكبرى للأمة،
في فترة من الزمن طبعتها المواجهة مع الفكر الغربي الوافد، وهاجس التأصيل الثقافي والحضاري، فقد كان جل من كتبوا للأطفال في تلك الفترة ووضعوا اللبنات الأولية لأدب الطفل العربي هم من رجالات الحركات الوطنية التي واجهت الاستعمار، أو من حاملي مشعل النهضة في العالم العربي.
ولم يكن الأدب العربي خاصة، والثقافة العربية عامة ، قد تلوثا بمظاهر الغزو الثقافي ، وتحضرني هنا أسماء أحمد شوقي وعلال الفاسي وكامل الكيلاني ومحمد سعيد العريان .
لقد وضع هؤلاء وغيرهم من الجيل الأول قصصا وأشعارا للأطفال توخوا فيها التوجيه السليم والوعظ والإرشاد والتقويم والتزكية والإصلاح، وسعوا إلى غرس حب لغة الضاد في نفوس الأطفال، وصقل مواهبهم اللغوية.
ولا يقلل التطور الذي حدث في أدب الطفل في المراحل اللاحقة من إنجازاتهم التي كان لها فضل التأسيس .
من النشأة إلى التغرب
لقد كانت هذه النظرة السريعة إلى البدايات الأولى لأدب الطفل في العالم العربي ضرورية للتساؤل:
هل استطاع أدب الأطفال العرب، أو الأدب العربي المكتوب للطفل، أن يستوعب هذه التجربة السابقة ويبني عليها ؟ .
لاشك أن القطيعة التي حدثت بين الرواد الأوائل والمبدعين اللاحقين في الكتابة للطفل قد أثرت كثيرا على وضعية أدب الطفل في العالم العربي , فالتجارب التي جاءت فيما بعد لم تحتفظ بنفس الفلسفة التربوية والاجتماعية التي حكمت الرعيل الأول، وأخذت تقتبس من الغرب الرأسمالي
أو الشرق الشيوعي نماذجه الأدبية الخاصة بالطفل، بحسب التوجهات الإيديولوجية والفكرية التي سادت في العالم العربي خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، فبدأت مرحلة التغريب والغزو الثقافي في أدب الأطفال، بمثل ما كان عليه الحال في المجالات الأخرى من أدب وفكر وفن .
لقد تمت التضحية بالطفل العربي والمسلم لصالح الإيديولوجيات الشرقية والغربية التي حملت فلسفات تربوية واجتماعية متصارعة فيما بينها ، ومتناقضة في مجموعها مع هوية الطفل العربي الذي كان غائبا في حقيقة الأمر, فمن الواضح أن النماذج الغربية والشرقية لم تستجب لحاجياته ومتطلباته النفسية والروحية والعقلية، الأمر الذي أحدث شرخا كبيرا في هويته، زاده بلة التطور الذي دهم صناعة ثقافة الطفل في الغرب التي اكتسحت البيوت في العالم العربي بفضل انتشار التلفزيون والإعلام السمعي البصري .
إن الفرق بين تجربة الرعيل الأول والتجربة اللاحقة لها يظهر بالأساس في أن الأولى كانت واعية بنفسها، ولها منطلقات محددة وغايات مرسومة، بصرف النظر عما إذا كانت فشلت أو توفقت في التواصل مع المستويات العمرية والمقدرات المختلفة للأطفال العرب، بينما التجربة الثانية انطلقت من غير بلورة الأسس العلمية، التربوية والثقافية لأدب الطفل، فسقطت في النقل الحرفي لما يكتب في الغرب للطفل غير المسلم ، وهو ما وضع أدب الطفل في العالم العربي في محنة حقيقية .
إن التاريخ العربي والإسلامي زاخر بتراث قصصي وشعري هائل من شأنه أن يغني أدب الأطفال ويؤسس لمنظومة تربوية متماسكة، فإلى جانب التراث المكتوب، الغني بما يحويه، هناك تراث شفاهي تناقلته الأجيال عن بعضها البعض، جزء كبير منه له جذور عميقة في الوعي الديني للأمة، عبرت به الأجيال الثقافية بشكل تلقائي عن هموم حياتها اليومية ومشاعرها وقضاياها ، غير أن هذا التراث الكبير لم يتحول إلى مادة يمكن استثمارها وتوظيفها في أدب الطفل المسلم، إلا في حالات قليلة لبعض الكتاب والشعراء الإسلاميين المعاصرين، وهي حالات لم تشكل القاعدة بل الاستثناء، وسط ركام كبير من الكتابات المتغربة ذات الأهداف الإيديولوجية المائلة، أو المتسرعة ذات الغايات التجارية، وبين هذين القطبين، ظلت مساحة الاجتهاد المؤصل محدودة ومزاحمة ، وتعطل مشروع وضع أدب مستقل للطفل المسلم في العالم العربي له خصوصياته وأسئلته وقضاياه، بسبب القطيعة بين التجارب المختلفة، وعدم اكتمال النمو .
أدب الطفل والدور المفقود
إن المتأمل فيما توفره مكتبة أدب الطفل في العالم العربي يلحظ بونا شاسعا بين المشهود والمنشود، لقد سجلت الإنتاجيات في مجال أدب الأطفال العرب تقدما ملحوظا خلال العشرين سنة الأخيرة من حيث الكم، وهذا عائد إلى الأهمية التي أصبح يحظى بها الطفل عموما في العالم العربي، وانتشار المدارس وانحسار الأمية لدى الجيلين الأخيرين مقارنة مع الأجيال السابقة، وغيرها من الأسباب
ولكن هذا التقدم في المستوى الكمي لم يرافقه تقدم في المستوى النوعي لأدب الطفل .
فأدب الطفل في العالم العربي ظل حتى اليوم عالة على ما تقدمه المائدة الغربية، ترجمة أو استلهاما, و الاعتقاد السائد هو أن التقدم الذي حققه أدب الطفل في الغرب يبرر النقل عنه أو استلهام تقنياته، بدون النظر إلى حاجات الطفل المسلم والمحيط الثقافي والرمزي الذي يتحرك فيه
ومن ثم تصبح عملية النقل خطرا على الطفل المسلم من حيث إنها تكرس لديه الشعور بالتبعية من ناحية، وتركز لديه عادة التفكير من داخل ثقافة الطفل الغربي ونمط عيشه من ناحية ثانية، وتغرس فيه الشعور بالعجز.
ولا ينبغي أن يغيب عنا أن الأدب بالنسبة للطفل يختلف عنه بالنسبة للكبار، فهو في حالة الطفل تنشئة من داخل الخطاب الأدبي، بكل ما تحمله كلمة التنشئة من المعنى .
إن مشكلة النموذج هي المشكلة الرئيسية في أدب الطفل في العالم العربي اليوم :
ما النموذج الحضاري في هذا الأدب، والذي يراد غرسه في نفسية الطفل؟
من الأبطال الحقيقيون الذين يؤمن بهم الطفل ويسعى إلى خلق شخصيته من خلالهم؟
ما المساحة التي يشغلها التاريخ في أدب الطفل المسلم؟
مثل هذه الأسئلة من شأنها أن تلقي الضوء على حقيقة وضعية أدب الطفل في العالم العربي، فبقدر القرب أو البعد منها يمكننا تشخيص هذه الوضعية ، ويكفي القول هنا إن قيم البطولة العربية المسلمة تغيب في جل منجزات أدب الطفل العربي، لحساب قيم البطولة المستوردة من الغرب، ولم يستطع هذا الأدب أن يخلق أبطال الطفل المسلم الحقيقيين، وظل مرتبطا بالشخصيات البطولية التي ابتدعها رواد أدب الطفل في الغرب
( تان تان ، توم و جيري، ميكي ماوس …) ،
وهي شخصيات تبقى منقطعة الصلة بمحيط الطفل المسلم وتاريخه .
إن التطور الذي شهده أدب الطفل في الغرب لم يكن منقطعا عن الفلسفة التربوية الغربية العلمانية والمادية التي أنجبته، فأدب الطفل في الغرب الرأسمالي يسير في منحنى علماني، الهدف منه تنشئة الطفل على قيم الاستقلالية في تفكيره وحركته عن الأسرة والكنيسة، والثورة على القيم المحافظة، واعتبار الغاية الأساس هي تفجير طاقاته بصرف النظر عن أي حدود دينية أو قيود أخلاقية، ومن هنا سادت قيمة الاستهلاك والحرية الفردية المطلقة والتحرر الاجتماعي .
وإذا نحن تأملنا في الأدب الصهيوني المخصص للأطفال، نجده لا ينفصل عن الجذور الدينية والفكرية التي أسست للمشروع الصهيوني، ونجد فيه المرآة العاكسة للرؤية التربوية الصهيونية، من حيث تنشئة الطفل على الالتصاق بأرض الميعاد التي يعتبرونها أرض الأجداد، والالتحام بالجماعة اليهودية كوسيلة للخلاص، إلى الحد الذي يختلط فيه الأدب بالتربية، فتصبح التربية أدبا، والأدب تربية .
من هنا يتضح لنا أن مشكلة أدب الطفل المسلم هي مشكلة الخصوصية التي يفتقدها في علاقته بالنماذج الأدبية الغربية السائدة، فالكثير مما يكتب للأطفال المسلمين تغلب عليه القيم المستوردة والشخصيات التاريخية والرمزية الأجنبية، دون تدقيق فيما يتم تلقينه للطفل المسلم مما قد يكون له أثر سلبي على وعيه بمحيطه وتاريخه وحضارته، فقد ساد الاعتقاد لدينا بأن الكتابة للطفل الهدف منها الترويح والتسلية ومساعدة الطفل على تربية الخيال الإبداعي، بينما وضعت مهمة التربية والتنشئة النفسية والاجتماعية السليمة وخزن القيم الباطنية جانبا، بدعوى أن مرحلة الطفولة تتمحور حول قضية واحدة فقط هي اللعب والترويح.
إن التحدي الكبير المطروح على المجتمعات العربية والإسلامية في عصر العولمة والانترنيت هو تحد متعدد المستويات
لكن أدب الطفل يبقى أهم هذه المستويات، لكي يمكننا التصدي للثقافة المسطحة وحضارة التسلية القاتلة والاستهلاك المميت التي تقترحها العولمة الرأسمالية الغربية على العالم.
ولا يمكن النهوض بهذا التحدي دون خلق نموذج إسلامي حي لأدب الأطفال يخوض معركة المستقبل في الحاضر المشهود، يجتمع عليه خبراء التربية والعلم الشرعي وعلوم النفس والاجتماع واللغة والفنون المختلفة ورجال الإعلام والكتاب والمبدعون والشعراء
فالغرب يتفوق علينا باستجماعه لكل الجهود في هذا الحقل ، وخلق أدب للصغار أصبح يبهر أطفالنا ويغزو قنواتنا ومكتباتنا وبيوتنا
حتى أصبحنا نعيش وضعية الاختراق الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة، وهذا أكبر خطر على أطفالنا
لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب في كل شيء والأطفال هم الحلقة الأضعف في المجتمع و أكثر المعرضين للتقليد .
لآ حرمني المنون أروحكنْ بطهرهآ .
تقبلي مروري