الأثر الديني
تعرض الأقباط في مصر قبل الفتح الإسلامي لاضطهادٍ قاسٍ على أيدي البيزنطيين، ومن ثَمَّ رأوا في القوة الإسلامية الداخلة، الأمل بالخلاص مما هم فيه،فساندوها، ورحبوا بدخول المسلمين أرض مصر، لكن هذه المساندة كانت صامتة في باديء الأمر، أي حيادية .
وشكلت انتصارات المسلمين وإخضاعهم البلاد، نصرًا دينيًا للأقباط حيث غادر البلاد عدد كبير من البيزنطيين، ولما استقرت الأوضاع، وكانت أخبار العهدة العمرية الخاصة ببيت المقدس قد تسربت إلى مصر، لقي الأقباط من الحكم الجديد ما شعروا معه بكثير من الحرية.
ولعل أول عمل قام به عمرو بن العاص بعد استقرار الأوضاع الداخلية ؛الإعلان بين الناس جميعًا أن لا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة أمر مقدس، فلن يتعرض لأحد في حريته أو ماله بسبب دينه أو مذهبه، وخيَّرهم بين الدخول في الإسلام والبقاء على دينهم، فمن يدخل في الإسلام يكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، والواقع أن عمرًا انتهج سياسة المساواة الدينية بين المذهبين النصرانيين اللذين استمرا في مصر، وتذكر روايات المصادر أن كثيرًا من كنائس الملكانيين فضلوا البقاء في مصر؛ وأن أسقفا ملكانيًا بقي على مذهبه حتى مات ولم يمسه أحد بأذى، وأن البطريرك القبطي بنيامين الذي عاد إلى الإسكندرية بعد أن قضى ثلاثة عشر عامًا لاجئًا متخفيًا خشية أن يُقبَض عليه، أُعِيد إلى مركزه وأضحى بإمكانه أن يقوم بواجباته الدينية وهو مطمئن، وكان يستقطب الناس إلى مذهبه بالحجة والإقناع، واستطاع أن يحصل على بعض الكنائس التي تركها الملكانيون بعد خروجهم وضمها إلى كنائس البطريركية، ولما عاد إلى الإسكندرية قال لأتباعه : " عدت إلى بلدي الإسكندرية، فوجدت بها أمنًا من الخوف، واطمئنانًا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم"
كان من أثر الحرية الدينية والمعاملة السمحة أن أقبل كثير من الأقباط على النظر في المذاهب المختلفة، ثم انتهى أكثر هؤلاء إلى قبول الإسلام والدخول فيه.
الأثر الإداري
خلت بخروج البيزنطيين بعض الوظائف الحكومية التي كان يشغلها هؤلاء، ولأن المسلمين لم يكن لهم عهد بعد بالشؤون الإدارية، وكان يهمهم أن تستمر الإدارة في العمل، وأن تجمع الضرائب،بغض النظر عما يختص بالعاملين فى الحقل الوظيفي فقد فتحوا أبواب العمل أمام القادرين والراغبين من الأقباط، والمعروف أن الإدارة الإسلامية الجديدة احتفظت بثلاثة موظفين بيزنطيين في مراكز إدارية كبيرة هي حاكمية مصر السفلى، وتولاها ميناس، وحاكمية منطقة الفيوم وتولاها فيلوخينوس، وحاكمية الريف الغربي وتولاها سينوتيوس.
وبفعل هيمنة الموظفين الأقباط على العمل الإداري، أضحت اللغة القبطية اللغة الرئيسية في الإدارة، فحلَّت بذلك محل اللغة اليونانية، وحافظ المسلمون على الأساليب البيزنطية في تدوين الدواوين وجمع الضرائب، فانتعشت الثقافة القبطية مجددًا وأخذت تملأ الفراغ الذي نتج عن الخروج البيزنطي، واعتنى الأقباط بتعلم اللغة العربية لأنها كانت لغة الفاتحين، واحتفظ المسلمون بقيادة الجند والقضاء.
الأثر الاقتصادي
كانت مصر تتعرض بين سنة وأخرى لضائقة اقتصادية ناتجة عن انخفاض ماء النيل مما يسبب خللاً في المعادلة الاقتصادية، قد عانى المصريون كثيرًا من هذه الظاهرة،وقد أدرك عمرو بن العاص ذلك فخَفَّفَ عن المصريين كثيرا من الضرائب التى فرضها البيزنطيون عليهم، والمعروف أن الضرائب البيزنطية كانت كثيرة ومتنوعة، وتناولت معظم النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وسوَّى بينهم في أدائها كما أعفى بعضهم منها.
ويذكر في هذا المقام أن الخليفة كتب إلى عمرو أن يسأل المقوقس في خير وسيلة لحكم البلاد وجباية أموالها، فأشار عليه المقوقس بالشروط التالية :
– أن يستخرج خراج مصر في وقت واحد، عند فراغ الناس من زروعهم.
– أن يرفع خراجها في وقت واحد، عند فراغ أهلها من عصر كرومهم .
– أن تحفر خلجانها كل عام .
– أن تصلح جسورها وتسد ترعها.
– ألا يختار عامل ظالم لِيَلِيَ أمورها.
ونتيجة لهذه التوصيات رسم المسلمون خطة جباية الخراج، واعتنوا بهندسة الري من حفر الخلجان وإصلاح الجسور، وسد الترع وبناء مقاييس للنيل و إنشاء الأحواض والقناطر، ولعل من أشهر ما قام به عمرو، هو حفر خليج تراجان الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، ويسهل الاتصال بالجزيرة العربية، ويؤمن طريقًا أفضل للتجارة الشرقية، يبتديء هذا الخليج من شمالي بابليون ويتجه شمالاً بشرق إلى بلبيس ثم ينحرف شرقا إلى بحيرة التمساح ليخرج من جنوبي هذه البحيرة إلى البحيرات المرة ويبلغ البحر الأحمر عند السويس.
وكان من أثر هذه الإصلاحات أن تحسنت حالة الأقباط وزادت ثرواتهم، واطمأنوا على أرواحهم وممتلكاتهم ومستقبلهم، ونعموا بالهدوء والاستقرار، وازدادت ألفتهم بالمسلمين مع مرور الوقت ودخل كثير منهم في الإسلام.
ويبقى أن نذكر أن الرأي السائد آنذاك،كان أن يبقى المسلمون على رباطهم لا يشغلون بالزراعة ولا يحلون بالبلاد كأهلها، فلما اطمأنوا في البلاد أخذ ذلك الحظر يُرفَع عنهم وأُبِيحَ لهم أن يمتلكوا الأراضي.
ماذا كان يحدث لمصر لو لم يأتها الفتح الإسلامي؟
الواقع أن هذا السؤال ضروري للغاية لمن يريد أن يقيم الفتح الإسلامي لمصر تقييمًا نزيها مخلصا مبرءًا من الأغراض؛ لأن الفتح الإسلامي كان ذا أثر عظيم على مصر، وكان علامة فارقة في تاريخها-ليس هي وحسب- بل في أفريقية بأسرها، والباحث المنصف يرى أنه لو لم يأتِ الفتح الإسلامي لمصر لظلت:
2- لو لم يأتِ الإسلام لحُرِمَ الأقباط من ممارسة شعائرهم الدينية وحقوقهم، ولظل الإسلام قابعًا في الجزيرة العربية ولم يستضيء بنوره أهل أفريقية وبلاد الأندلس.
3– أو لأصبحت مصر بؤرة من بؤر محاربة الإسلام، أما اليوم فهي شعلة من مشاعل نصرة الإسلام ونشره في العالم أجمع، ولحُرِمَ أبناؤها من ثواب الرباط إلى يوم القيامة.
وخلاصة القول: لو لم يأتِ الإسلام لظلت مصر ميتة بين الأحياء.
من موقع قصه الاسلام
اشراف الدكتور راغب السرجانى