وطال البلاء – د – محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم 2024.

وطال البلاء – د – محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
وطال البلاء – د – محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم



دار
وطال البلاء – د – محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم


الحمد لله ولي النصر، ذي العز والقهر، رفيع القدر، وشارح الصدر، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له نافذ الأمر، وقيوم الحشر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله مبدِّدَ حلكةِ الكفر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي المناقب والطهر.

أيها المؤمنون!
في سوريا بؤس قد تناهى حين اجتمع في البلاء ذروة شدة وطول فترة، أذكى الأوارَ إسلامُ شعب سني مسلم لعدو باطني ظلوم غشوم من ورائه دول غطى حقدها خافقي فؤادها الشقيِّ الأسود، وانتزع منه كل وشائج الرحمة؛ فأوغل في نكال العزّل فتكاً وهتكاً وسفكاً وبتكاً وسط صمات عالمي ما بلغ النبْس ولا أبقى النفْس!

تناهى شدةً فاض اصطباراً دار

بلاءُ الشام في وُلْدٍ وشيبِ دار

وفي طول البلاء فَتْنُ إيمان القلوب؛ فالمؤمنون صابرون محتسبون مجاهدون منتظرون حسنى النصر أو الشهادة، ما زادهم شدة البلاء إلا ثقة بربهم واستدناء لفرجه، ﴿ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ﴾ [الأحزاب: 22].
أما المنافقون والذي في قلوبهم مرض، فيُعْمِل شدُّ البلاء في قلوبهم شكاً وارتياباً بوعد الله، ويحملهم ذلك على التفصّي من عقدة الإيمان، والهزءِ من ثقة المؤمنين بنصر ربهم، أخبر الله – سبحانه – عن تلكم الحال البائس بقوله: ﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب:11 ،12]
وقوله: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49].

أيها المسلمون!
إن البصيرة حال شدة البلاء وطول أمده من أعظم عُدد الثبات فيه، وتخطيّه بسلام، وجَأْبِ ثمرته اليانعة. ومن قوام تلك البصيرة معرفة أسباب تأخر النصر، وتلمس مكاسب البلاء، والقيام بوظيفة الوقت؛ إذ للبلاء وتناهي شدته وتأخر فرجه ونصره أمدٌ وحكمة، تسامت على هلكة الأولياء وإدالة الأعداء.

معشر المؤمنين!
إن إنجاء المؤمنين ونصرهم حق أوجبه الله على نفسه كرماً وفضلاً، كما قال سبحانه: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]
ولكنّ ذلك الأمر قد يتأخر لحكم يعلمها الله، فقد يبطىء النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد، ولم يتم بعد تمامها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!
وقد يبطىء النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، إلا بذلته هيناً رخيصاً في سبيل الله.

وقد يبطىء النصر حتى تجرّب الأمة المؤمنة آخر قواها؛ فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، وإنما يتنزل النصر من عند الله عند ما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.

وقد يبطىء النصر؛ لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجَّهاً إلا إليه وحده في الضراء. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عند ما يتأذن به الله؛ فلا تطغى، ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله. وقد يبطىء النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته؛ فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله.
كما قد يبطىء النصر؛ لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقيةً من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهبَ وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير!

وقد يبطىء النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفة للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون – حينئذ – فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة؛ فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه!

وقد يبطىء النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة.

فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار؛ فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!

وقد يبطىء النصر بذنوب لم يُتب بعد منها.
قال الإمام ابن عبد البر: " وُفِدَ على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بفتح، فقال: متى لقيتم عدوكم؟

قالوا: أول النهار، قال: فمتى انهزموا؟
قالوا: آخر النهار، فقال: إناّ لله!

وأقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره! والله إن كان هذا إلاّ عن ذنب بعدي، أو أحدثتُه بعدكم، ولقد استعملت يعلى بن أميّة على اليمن أستنصر لكم بصلاحه".
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يتأخر النصر مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51].
وحسن ظننا في الله – جل وعلا – أنه ما أخّر النصر إلا لعظمه.
يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تكفل لي بالشام وأهله" رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

يقول أبو إدريس ( أحد رواة الحديث ) إثر روايته: "وَمَنْ تكفَّل اللَّهُ بِهِ فَلا ضيعة عليه".
ويقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "يا طوبَى للشام! يا طوبَى للشام! يا طوبَى للشام! قالوا: يا رسول الله! وبِمَ ذلك؟
قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام " رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي،ويقول": « إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ » رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وقال خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ الْأَسَدِيُّ – رضي الله عنه -: «أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ، كَيْفَ يَشَاءُ، وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ » رواه أحمد وصححه الألباني.

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أيها المؤمنون!
وتلمس مكاسب البلاء من حسن البصيرة فيه؛ فيطمئن القلب، وتزداد المصابرة، ويقوى الفأل، ولا يتسرب للنفوس خور أو استخفاف. ومن سوابغ منح المولى على مؤمني سوريا ببلائه، بل وعلى أهل الإيمان قاطبة: استشعار الافتقار إلى الله وإظهاره، وصفاء توحيده، والفيئة إلى دينه، وانتزاع مخافة غيره من القلوب؛ إذ خاب الرجاء إلا فيه، وانقطع الأمل إلا منه، وضعف الاعتماد إلا عليه؛ فانطلقت من شفاه الصغار والكبار كلمات التوحيد النابعة من صدق الاعتقاد والفعال مجلجلة في أصقاع الدنيا بل وتحت أزيز الطائرات ودوي الانفجارات: "لن نركع إلا لله" "ما لنا غيرك يا الله".

وتمايز الصف وسقوط أقنعة الخداع ووضوح حقيقة العدو المتدثر بعباءة التشيع وحب آل البيت من أعظم المكاسب التي لم تَبِنْ إلا بهذا البلاء. واستعادة المهابة المسلوبة بالقيام بذروة سنام الإسلام في أرض الملاحم، وشهود اليقين بنصر الله الفئةَ القليلةَ إن قامت بنصره، واصطفاء الشهداء، وتعظيم الأجور، وتكفير الأوزار، وحدب المسلمين على بعضٍ، وعيشهم بشعور الجسد الواحد، وصقل قادة الفتح، وتربية طلائع التمكين، كلُّها منح من المولى أسداها من محن بلائه. وما خفي من حِكم البلاء أوفر مما ظهر، وأعظم من أن يُستقصى.

إخوة العقيدة!
إن دَرَكَ واجب الوقت والقيامَ به في خضم تناهي البلاء من أعظم ما يُستجلب به الفرج، ويُستنجح به النصر. وإن حسن الظن بالله، واليقين بنصره، وتجديد التوبة، ولزوم الفرائض وعلى رأسها الصلاة، والائتلاف على كلمة الحق السوية، والاصطفاف وراء لوائها، والجؤار بدعاء الله، وبذل المستطاع في إعداد القوة، والمصابرة في منازلة العدو وكيده، والقيام بواجب النصرة حسب الاستطاعة، كلها من وظائف شدة البلاء التي لا ينجلي إلا بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].


بارك الله فيكِ يا عبير موضوع رائع
جزاكِ الله خير على كل كلمة وكل حرف فيه
دار
دار

أختي الغالية

أحسن الله إليكِ
جعلكِ الله ممن يناديهم المنادي يوم القيامة
لكم النعيم سرمدًا
تحيون ولا تموتون أبدًا
تصحون ولا تمرضون أبدًا
تنعمون ولا تبتئسون أبدًا
يحل عليكم رضوان ربكم ولا يسخط عليكم أبدًا
وصلِ اللهُ على سيِّدِنا مُحمَّد وَعلى آلِهِ وصحبه وَسلّم
دمـتِ برعـاية الله وحفـظه


جَزّآَِكِـ آِللَهُ خَيْراً عِلْىَ طَيّبِ مَآ طَرِحْتِ ..
وكساك المولى من فضله..طَرْحٌ قَيْمٌ جِدَاً ..
سلمت يداك ولاهنتي
مودتي

غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم 2024.

غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم

غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم

غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم

دار


غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم


البحر ربيع أزرق دائم الزرقة لا يجدب، لا يمل الناس منهم مهما عادوا إليه، ألهم الشعراء فهاموا به مدحا ووصفا، وجلس على ضفافه الأدباء فأنشئوا نثرا ونظما، ضربوا به المثل في السعة والعطاء والكرم وتنوع الكنوز وتعددها والاستيعاب حتى قالوا حدث عن البحر ولا حرج، كثر عنه الحديث في كتاب ربي فتارة يتحدث عن الامتنان بما فيه من النعم فهو زاخر بالحلي والجواهر
قال تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)
وفيه من المخلوقات العظيمة العجيبة التي هي آيات من آيات الله ، ومن بعضها يأكل الناس لحما طريا قال جل ثناؤه: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) .
وضرب الله المثل بظلماته المتراكمة بالظلمة التي يعيشها الكافر ويتقلب فيها في هذه الحياة الدنيا فقال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ. أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) فسبحان من أمد أوليائه بالنور التام وجعل أعداءه يتخبطون في دياجير الظلمات ولا يشعرون أنهم يتقلبون في هذه الظلمات حتى إذا كان يوم القيامة وجد أهل الإيمان النور ووجد أهل الكفر الظلمة التامة التي تلازمهم في دار العذاب السرمدي.
وهذا البحر لو كان مدادا أ ي حبرا لنفد قبل أن تنفد كلمات الله قال الله تعالى:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) فانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فلو كان البحر حبرا والشجر أقلاما لنفد البحر فتعالى الله ما أعظم شأنه جل جلاله وتعالى سلطانه قال الله: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
ولما أذن الله أن يكشف لبعض خلقه شيئا مما أودعه في مخلوقاته من أسرار خلقه فتح على الناس من أسباب العلم الحديث ما يكون حجة عليهم في الإيمان بربهم قال تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) فيكشف العلم الحديث ما ذكره القرآن في وقت لم يعرف الناس من وسائل العلم ما يتمكنون به من الوقوف على دقائق الخلق وأسرار الصنعة الإلهية فتعالى الله رب العالمين.
وذكرنا الله بالفلك تجري على ظهر البحر تحمل الناس والمتاع ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وجريانها على ظهره آية على التوحيد وشاهد على أن العبادة لا تصلح إلا لله رب العالمين قال تعالى:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ)

فإذا هاج البحر خشي الناس غائلته فيلهجوا الدعاء وأخلصوا التوحيد لرب الأرض والسماء قال ربنا تعالى جده وتوالى حمده:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) فينجيهم وهم كفار لأنهم لجأوا إليه ، فإذا خرجوا منهم عادوا إلى كفرهم لأنهم نسوا أنهم سيعودون، وغفلوا عن أن مالك البر والبحر هو الله سبحانه وتعالى؛ فنبههم الله إلى أن المالك للبر والبحر هو الله سبحانه وتعالى وأنه كما قدر على البحر فجعله عرضة للهلاك قادر على أن يخسف بهم جانب البر قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا. أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً).
والبحر على سعته وعظمته جندي من جنود ربك وما يعلم جنود ربك إلا هو فإذا أمره الله أن يكون عونا لأوليائه فهو المطيع الذي لا يعصي ، وكان خير ناصر ومعين، وإذ سلطه الله على أعدائه فهو الجبار الذي لا يرعوي؛ أنظر كيف حمل موسى وهو طفل وحفظه حتى بلغ به الغاية التي أمر أن يحمله إليها، وانظر كيف أردى فرعونا غريقا ممزقا (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) ولما كبر موسى وكلف بالرسالة وأمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل لحقه فرعون وجنوده فكان البحر خير معين لموسى فكان طريقا يبسا لموسى وقومه وعذابا مضطرما على فرعون وجنده(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) وأخرج ابن جرير بسنده قال ثني محمد بن إسحاق قال أوحى الله فيما ذكر إلى البحر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له قال فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله وانتظار أمره وأوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق. وهذه الحادثة التي مرت فكانت آية من آيات الله ليست هي آخر تسليط البحر على البشر فكم ابتلع من ظالم فارداه غريقا ممزقا، وكم باغت من أمة غارقة في معاصيها غارقة في غيها فيصبحها البحر شر صباح فإذا هي أثر بعد عين وما تسونامي من ذلك ببعيد.
وبعد هذا التطواف مع البحر نقف على خبر غريقين غرقا في البحر فغريق نجا وغريق هلك


غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم
غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم
غريق نجا وغريق هلك – للشيخ عبدالله السحيم

دار


أخبرنا الله في محكم تنزيله عن خبر غريقين غرقا في البحر؛ فغريق نجا وغريق هلك، وهذان الغريقان كلاهما قصدا البحر بطوعه واختياره، لكن لكل واحد منهما هدف من قصد البحر
ولكل واحد منهما سبب دفعه لأن يتوجه إلى البحر، وبين المقصدين كما بين البر والبحر، وبين الرجلين كما بين السماء والأرض، إنهما نبي الله يونس عليه السلام، وطاغية الدهر فرعون، فهذا نبي وذاك طاغية، هذا قصد البحر مؤمنا وذاك قصد البحر كافرا، هذا في حال غرقه يشهد ألا إله إلا الله ويعترف بذنبه فتنجيه شهادته واعترافه وذاك حال غرقه يشد أنه مؤمن بما يؤمن به بنو إسرائيل فلا تنفعه شهادته لأنه عاين العذاب وتحقق من الهلاك، ولأنه كان قبل ذلك من الكافرين المعاندين

هذا خرج من قومه لأنه استمروا على كفرهم ولم يؤمنوا، وذاك خرج على موسى وقومه لماذا يسلموا ويدعوه وآلهته إن هذا لشيء عجاب، هذا قصد البحر غضبا لله، وذاك قصد البحر محادة لله وحربا لنبي من أنبياء الله، هذا خرج للبحر وقد ظن بالله خيرا أنه لن يضيق عليه، وذاك خرج إلى البحر يدعي أن الله وأنه وقومه حذرون من موسى وقومه، قصد البحر كبرا وبطرا وأشرا، أمر البحر أن يكون طريقا يبسا لموسى وقومه، وأن يكون عذابا على فرعون وقومه ، خرج منه موسى عليه السلام ظافرا منتصرا، وخرج منه فرعون جثة طافية ليكون عبرة وآية إلى يوم الناس هذا، كل يزور جثته بل جيفته ويرى كيف مصارع الطغاة وكيف مآل المتكبرين، إن نجاة موسى عليه السلام عبرة، وإن هلاك فرعون آية قال تعالى:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )
سورة الشعراء

فانظر كيف انتهى به المآل إلى ذل المصرع فإذا المتكبر بالأمس على بني إسرائيل يعلن اتباعه لدينهم وأنه مؤمن بما يؤمنون به عله ينجو من الهول الذي أدركه قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) .

وانظر أيضا كيف أبغضه أهل السماء والأرض فجبريل كان يسارع ويدس الطين في فمه مخافة أن تدركه رحمة الله كما روى ذلك سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل لو رأيتني وأنا اخذ من حال البحر فأدسه في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة.


الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الجامع – الصفحة أو الرقم: 5206
خلاصة حكم المحدث: صحيح

والأرض التي كان يمشي عليها فرحت بفراقه ولم تبك عليه قال تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ . وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِين. مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ).

هذا خبر غريق غرق فهلك فكان هلاكه ومصرعه آية.

وهذا خبر غريق غرق فنجا فكانت نجاته قصة تروى إلى يوم الدين يستمد منها المؤمنون العبرة والعظة ويقتدون بصاحبها في المضائق والملمات ويدعون ربهم بدعوته فتفرج لهم الكربات، هذا يونس بن متى يدعو قومه إلى الله فيردوا دعوته ويخرج من بينهم مغاضبا ويتوعدهم بالعذاب ويظن أن الله لن يضيق عليه فيركب البحر فيهيج ويضطرب فيرى أصحاب السفينة أن يلقوا أحدهم ليتخففوا فيقترعوا أكثر من مرة وكلها تقع على يونس فقام وألقى بنفسه في اليم فالتقمه الحوت وأمر الله الحوت ألا يخدش له لحما ولا يكسر له عظما فاستقر به المقام في بيت لا ساكن فيه غيره، بيت متنقل ليس فيه فراش ولا غطاء ولا طعام ولا شراب، كل ما فيه ظلام بل ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة بطن الحوت، وظلمة قاع البحر، وظلمة الليل، قال ابن كثير رحمه الله وقال عوف الأعرابي لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس.

فحينئذ سبح ربه وناداه فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة قال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم قال فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تعالى (وهو سقيم ).

قال تعالى مخبرا عن هذا الغريق:( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِي).

فانظر كيف كان الله يحفظه وهو في بطن الحوت، ويعافيه بعد أن خرج سقيما، ثم تتواصل عليه المنن الإلهية فيرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون فيؤمنون به فيكون له مثل أجرهم وأجر من عمل بعملهم إلى يوم القيامة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

هذا يلقيه الحوت خارج البحر سقيما فيشفى، وذاك يلقيه البحر ميتا فيشقى، هذا تشفع الملائكة فيه إلى ربها، وذاك يدس في فمه جبريل حال البحر لئلا تدركه الرحمة، هذا يعود نبيا رسولا وذاك يبقى شقيا طريدا، لا يزال الذكر الطيب لهذا، ولا يزال الذكر السيئ يلازم ذاك ويصاحبه، هذا يتقلب في النعيم منذ أن توفاه الله وذاك يعرض على النار غدوا وعشيا قال تعالى:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) .
فانظر كيف كان المورد واحدا لكن المآل مختلف، الجميع ورد البحر لكن لكل مآل ومنتهى.


طرح رائع
جزاكِ الله عنا كل خير

وأثابكِ حسن الدارين
ومتعكِ برؤية وجهه الكريم
شكرا جميلا لقلبكِ
ورضا ورضوان من الله تعالى
دار

جزاك الله خير الجزاء
سلمت يمنياك على جهودك القيمة
جعلها الله في موازين حسناتك