الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنـك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم … كنا في كتاب رياض الصالحين ، وهو كتابٌ جمع فيه الإمام النووي ، رحمه الله تعالى ، نخبةً مختارة من الأحاديث الصحيحة التي نقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحينما وصلنا إلى باب ، حقوق الزوج على زوجته ، تابعنا هذا الموضوع فتحدثت عن حقوق الزوجة على زوجها ، ثم حقوق الآباء على الأبناء ، ثم الأبناء على الآباء، ثم انتقلنا إلى حقوق المسلم على المسلم ، وأنهينا موضوع الحقوق بحقوق الطريق .
والآن ، نعود ثانيةً إلى كتاب رياض الصالحين ، والباب اليوم باب (علامات حب الله تعالى العبد ، والحث على التخلق بها ، والسعي في تحصيلها ) .
الحديث اليوم : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ قَالَ : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) .
هناك حديثٌ نبويٌ شريف ، وهناك حديثٌ قدسي ، والفرق بينهما واضح ، كلاهما رواهما النبي عليه الصلاة والسلام ، لكن الحديث القدسي رواه النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه ، فالمعنى من الله عزَّ وجل ، وللحديث القدسي طريقةٌ خاصة ، وصياغةٌ خاصة ، ومعانٍ خاصة ، على كلٍ مر بنا من قبل طائفةٌ كثيرة من الأحاديث القدسية .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ قَالَ : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)) .
( رواه الإمام البخاري )
هذا الحديث القدسي فيه موضوعاتٌ شتَّى ـ أي عديدة ـ وفيه معانٍ دقيقة ، فالله سبحانه وتعالى فيما يروي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه يقول : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) ، الآن ، من هو الولي ؟ الولي هذه الكلمة مأخوذةٌ من عدة مصادر ، الوَلْيُّ القرب ، والى ، يوالي ، ولياً أي اقترب ، فالولي هو القريب من الله عزَّ وجل ، من أبسط معاني الولاية أن يكون هذا الإنسان قريباً من الله عزَّ وجل ، السؤال الآن : متى يكون الإنسان قريباً من الله عزَّ وجل ؟ باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، الطريق إلى الله سالكة ، أبواب الله سبحانه وتعالى مفتَّحة ، الخلق كلهم عند الله سواسية .
(يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل : خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له) .
فإذا سمعت كلمة الولي ، فلانٌ ولي ، فلان من أولياء الله الصالحين ، كلمة الولي بمعناها البسيط الإنسان القريب من الله عزَّ وجل ، الله سبحانه وتعالى مصدر الكمال ، فالقريب منه كامل ، الله سبحانه وتعالى مصدر السعادة ، فالاقتراب من الله سعادة ، فمن صفات الولي أنه كامل ، من صفات الولي أنه سعيد ، يقول لك الولي وهو صادق : ليس في الأرض من هو أسعد مني ، ليس في الدنيا ، ليس بوفرة المال ، ولا بعلو الجاه ، ولا بكثرة الأموال والأولاد ، لا ، ليس في الأرض من هو أسعد مني بالله عزَّ وجل ، إلا أن يكون أتقى مني ..
( سورة الحجرات : من آية " 13 " )
فالولي هو الإنسان القريب من الله عزَّ وجل ، والقرب من الله عزَّ وجل ثمنه اتباع أمره واجتناب نهيه ، الإمام الجنيد سئل :
ـ من ولي الله ، أهو الذي يطير في الهواء ؟
ـ قال : لا .
ـ قالوا : أهو الذي يمشي على الماء ؟
ـ قال : لا .
ـ قال : الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال وتفتقده عند الحرام .
أن يجدك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، إذا فعلت هذا فأنت من أولياء الله، طاعتك لله واجتنابك لما ينهى عنه ، هذا العمل يدفعك إلى باب الله ، يجعل الطريق إلى الله سالكاً ، يجعلك قريباً من الله عزَّ وجل ، في القرب سعادة ، في القرب نور ، في القرب طمأنينة ، في القرب شعور بالتفوُّق ، شعور بالنجاح ، شعور بالفلاح ، في القرب توفيق ، القرب من الله تعالى شيءٌ ثمينٌ جداً ، فكلمة الولي من معانيها أنه قريب ، والكافر بعيد ..
( سورة فصلت )
الكافر بعيد عن الله ، عمله السيِّئ أبعده عن الله ، معنى ملعون أي أن الله أبعده ، العمل السيئ يبعد ، والعمل الطيب يقرِّب ، فالولي إنسان قريب ، ويستحيل أن يكون الإنسان قريباً من الله عزَّ وجل دون أن يكون سعيداً ، يسعد بالله ، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام : ((يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)) .
(مسند أحمد)
هذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام : ((… وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاة)) .
(النسائي عن أنس)
هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
( سورة العلق )
( سورة طه )
" الصلاة نور " .. " الصلاة حبور " .. " الصلاة طهور " .
فباب الولاية مفتوح ، هذا المعنى الساذج أن هؤلاء أولياء الله أناسٌ قلة اختصهم الله ، باب الولاية مفتوح ، أي واحدٍ من هؤلاء الحاضرين الأكارم باب الولاية مفتوحٌ أمامه ، أطعه، وأخلص له ، واجتنب نهيه ، تكن من أوليائه ..
( سورة يونس )
((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) ـ العداء منوَّع ؛ هناك عداء قولي ، هناك عداء مادي ، العداء من لوازمه الإيذاء ، المعادي يؤذي ، يؤذي بلسانه ، ويؤذي بعمله ، ويؤذي بإعراضه ، فـ : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)).. هذا المعنى الأول للولي .
ولكن هناك معنى آخر : الولاية ؛ والى يوالي ولياً أي اقترب ، أما والى يوالي ولايةً أي نصر ، من معاني الولي أنه ينصر دين الله عزَّ وجل ، مجَنَّد في خدمة الحق ؛ أفكاره ، علمه ، قوته ، خبراته ، وقته ، ماله في خدمة الحق ، يقدِّم كل ما عنده في سبيل أن ينتشر هذا الدين ، هذا المعنى الآخر من معاني الولاية ، فلان ولي ، المعنى الأول إنه قريب ، والمعنى الثاني إنه ينصر دين الله عزَّ وجل . والى يوالي ولياً ، اقترب ، والى يوالي ولايةً ، نصر ..
( سورة محمد : من آية " 7 " )
إذا أقمت أمر الله فأنت تنصره ، لو أن طائفةً من التجار ، كلهم حينما يؤذن الظهر يتجهون إلى المساجد ، فالذي لا يتجه ، يشعر بالوحشة ، ويشعر بالضيق ، أما إذا كان الجميع لا يصلون ، يشعر هذا الذي سيصلي بالانفراد . معنى ذلك أنه كلما طبَّق الناس أمر الله عزَّ وجل تمكن دين الله في الأرض .
ما الذي يمكن دين الله في الأرض ؟ أن يطبقه الناس ، أنت يمكن أن تنصر القرآن باتباع أحكامه ، ويمكن أن تخذل القرآن بالبعد عن تطبيقه ، فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجةٍ إلى نصرٍ ، لكن الله عزَّ وجل يقول :
فهل الله سبحانه وتعالى خالق الأكوان ، بحاجةٍ أن ننصره ؟ الحقيقة إذا اتبعت أمره ، وانتهيت عما نهى ، فقد نصرت دينه ، فكلَّما طبق الإنسان أوامر الله عزَّ وجل اتسعت رقعة المؤمنين ، وحينما تتسع رقعة المؤمنين ، طبعاً هذه الرقعة إذا اتسعت لابد من أن تفرز أناساً يتولون أمرها ، كلما ضاقت هذه الرقعة ، جاء أناسٌ آخرون أمروا بغير ما أمر الله ، ونهوا عن غير ما نهى الله .
فلذلك الولي بالمعنى الثاني من الولاية ، ولكن والى يوالي ولايةً ، الولاية المحبة ، المعنى الأول : القرب ، والمعنى الثاني : النصر ، والمعنى الثالث : المحبة ، الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين بأنه يحبهم ويحبونه ، فالحب في الإسلام أصل ، الإسلام دون حب جسدٌ من دون روح .. " والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " .. فالمحبة أصل في الدين ، فأنت إذا أحببت ، وإذا نصرت ، وإذا اقتربت فأنت من أولياء الله، وهذه الأبواب كلها مفتوحة .
((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) ـ لكن هناك شيء دقيق أوضحه بمثل ، قد تقول : مليون ، هذه كلمة ، شتان بين أن تقولها وبين أن تملكها ، فرقٌ كبيرٌ جداً ، قد تقول : طبيب ، وهذه كلمة ، شتان بين أن تلفظها وبين أن تكون طبيباً ، المسافة كبيرة جداً ، قد تقول : ولاية ، هذه كلمة ننطقها ، ولكن شتان بين أن تلفظها ، وبين أن تكون ولياً لله عزَّ وجل ، إذا كنت ولياً لله فأنت من أسعد الناس ، فأنت من أكثرهم طمأنينةً ، أنت من أكثرهم راحةً نفسية ، أنت من أكثرهم شعوراً بالنجاح ، والتفوق ، والفوز ..
( سورة الأحزاب )
((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) ـ المعاداة إذاً من لوازمها الإيذاء ، العداء حال نفسي داخلي ، وسلوك ظاهري ، الحال النفسي ؛ الكراهية والبغض ، والسلوك الظاهر ؛ إما إيذاءٌ بالكلام ، وإما إيذاءٌ بالفعل .
((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) ، وفي القرآن الكريم ورد قوله تعالى :
سورة البقرة : من آية " 279"
المرابون ، موضوع الحرب شيء مخيف ، خالق الكون يحارب هذا الإنسان ، كلك بيده؛ جسمك ، أعضاؤك ، أجهزتك ، حركاتك ، سكناتك ، بيتك ، أهلك ، أولادك ، عملك ، تجارتك، مصنعك ، وظيفتك ، خصمك ، أعداؤك كلهم بيده ، مليون باب وباب يمكن أن ينتهي الإنسان إذا حاربه الله عزَّ وجل ، فهنا الحديث : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))
الآن ، يا ترى أنا علي أن أتحقق من أنه ولي أو غير ولي ؟ أنت خذ بالأحوط ، إذا كان هذا الإنسان مظنة أنه ولي فإياك أن تعاديه ، هذا القسم الأول من الحديث .
عندنا في أصول الفقه المعنى المخالف : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) ، ولكن " ومن والى لي ولياً " ، أنت اخترع أو استنبط معنى آخر ـ ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)) ، فمن والى لي ولياً ، لا شك في أن الله سيكرمه إكراماً شديداً ، فمن أكرم أخاه المؤمن فكأنما أكرم ربه ، هذا هو المعنى المخالف .
الفقرة الثانية من الحديث : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) ، مقام العبودية أعلى مقام يبلغه الإنسان ، لكن هناك ـ كما قلت لكم من قبل ـ هناك عبادٌ ، وهناك عبيد ، وفرقٌ كبير بين العباد والعبيد ، العباد هم الذين عرفوا الله ، واستسلموا له ، وانقادوا لأمره طواعيةً ، أما كل إنسانٍ من عبيد الله ، هؤلاء مقهورون بالعبودية ، يعني هو بيد الله ، أو بعبارةٍ أخرى هو في قبضة الله عزَّ وجل ، أنت عبدٌ لله بمعنى أنك في قبضته، في أية لحظةٍ ينهي حياتك ، في أية لحظةٍ يصاب الإنسان بخلل في أجهزته ، تصبح حياته جحيماً ، في أية لحظة يفقد ماله كله ، في أية لحظة يهينه الله عزَّ وجل ، فمعنى عبد بالمعنى الأول أنه مقهور ، أنت في قبضة الله عزَّ وجل ، فالعبد الذي جمعه عبيد ، أي إنسانٍ على ظهر البسيطة من عبيد الله ، لكن العباد أناسٌ عرفوا ربهم ، واستقاموا على أمره ، وتقربوا إليه ، وأحبوه ، هؤلاء عباد وليسوا عبيداً ..
( سورة الفرقان : من آية " 63 " )
شيءٌ آخر : الله سبحانه وتعالى حينما ينسب العبد إلى ذاته ، فهذه كما قال بعض شرَّاح الحديث : هذه نسبة تشريف ، فالله سبحانه وتعالى في عليائه نسبك إليه فقال : أنت عبدي ، فكلما قرأت حديثاً قدسياً : يا عبادي ، عبدي كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، هذه الأحاديث التي تفتتح بكلمة عبدي ، ينبغي أن تهز مشاعر الإنسان ، كان يقول أب لابنه : أنت ابني . يعني منتهى الإنتماء ، منتهى التشريف ، منتهى العناية ، منتهى العطف ، منتهى التأييد، أنت ابني حقاً .
قال : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) ، قلت لكم في خطبةٍ سابقة : ربنا سبحانه وتعالى يقول :
( سورة المائدة : من آية " 35 " )
الوسيلة أي شيءٍ قربك من الله عزَّ وجل ، أنت في دمشق ، والهدف حمص ، أي شيءٍ قربك إلى هذه المدينة فهي وسيلة ، فالدراجة وسيلة ، والدراجة النارية وسيلة ، والسيارة وسيلة ، والقطار وسيلة ، والطائرة وسيلة ـ إذا كان في بحمص مطار طبعاً ـ فكل شيءٍ يقربك إلى الله عزَّ وجل هو وسيلة .
إذاُ ـ ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي)) ، تقرب بعملٍ صالح ، تقرب بطاعته ، تقرب إلي بكف شهواته عن محارمي ، تقرب إلي بإطعام الجائع والمسكين ، تقرب إلي برعاية اليتيم ، تقرب إلي بالنصح للمسلمين ، تقرب إلي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تقرب إلي بقراءة القرآن ، تقرب إلي بخدمة الخلق ، تقرب إلي بتربية أولاده .
((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ)) ، يعني كل شيءٍ يمكن أن يرفع من مكانتك عند الله عزَّ وجل، كل شيءٍ تشعر أنه يقربك من الله فهو من القُربات ، فالإنفاق من القربات ، والصلوات من القربات ، والصيام من القربات ، وعمارة المساجد من القربات ، وخدمة الخلق ، أي شيءٍ يرضي الله فهو مما يقربك إليه ، وأنت أيها الأخ الكريم بفطرتك تعرف ما الذي يرضيه ، من دون أن يعلمك أحد ، إذا أمطت الأذى عن الطريق ، فأنت تتقرب إليه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ)) .
(متفق عليه)
أن تفرغ دلوك في دلو المستسقي قربة ، أن تعطف على يتيم .
عَنْ سَهْلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)) .
(البخاري)
أن ترعى أرملةً ليس لها أحد قربة ، أن تنصح الناس في البيع والشراء قربة ، أن تخدم عباد الله جميعاً قربة إلى الله عزَّ وجل ، هذه القربات كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى ، بعضهم قال : الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق .
((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ)) ، الآن سوف ينبئنا الله عزَّ وجل في هذا الحديث القدسي عن الشيء الثمين الذي يحب أن نتخذه قربةً إليه ، قال : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) ، الفرائض ، لماذا ؟ قال : لأن الأمر فيها جازم ـ الفرائض ـ ولأن من يفعلها يثاب ، ومن يتركها يعاقب ، من تعريف الفريضة : أنه يثاب فاعلها ، ويعاقب تاركها ، والأمر بها قطعي وليس ظنياً ، المكروهات ، والمندوبات الأمر بها ظني ، لكن الفرائض الأمر بها قطعي ، قطعيٌ في صياغته ، قطعيٌ في لزومه ، قطعيٌ في إيجابه ، ومن يفعله يثاب ومن تركه يعاقب ، لذلك : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) ، الصلوات الخمس في الدرجة الأولى ، صيام رمضان ، حج البيت ..
( سورة آل عمران : من آية " 97 " )
أداء الزكاة ، غض البصر ، الكسب الحلال ، الإنفاق الصحيح ، تربية الأولاد ، رعاية الزوجة ، الإحسان إلى الجار ، الأشياء التي وردت فيها نصوص ملزمة ، بمعنى واجبة ، هذه من الفرائض ، لذلك قبل أن تذهب إلى العمرة كل عام ، ولك أولادٌ ضائعون ، محتاجون إلى رعايتك ، فأفضل شيءٍ أن تتقرب إلى الله عزَّ وجل بما افترضه عليك ، هناك أناسٌ يلهثون وراء النوافل ويدعون الفرائض ، هناك أناسٌ ما عرفوا نسبة أي شيءٍ في الدين إلى جوهره ، فظنوا الأشياء الثانوية في الدين جوهراً ، فألحوا عليها ، وتمسكوا بها ، وتركوا أصل الدين ، لئلا نضيِّع الفرائض ، ونُعْنَى بغير الفرائض ، الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي يقول : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) ، أمرك أن تكون صادقاً، فإذا فعلت أفعالاً طيبةً نافلةً وكذبت ، ماذا فعلت ؟ أنت تركت الفريضة ، واتبعت النافلة ، هذا موقف فيه تناقض ، هذا موقف غير متوازن ، فالله سبحانه وتعالى في هذا الحديث يقول : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) .
(سورة النساء )
الزكاة ..((برئ من الشح من أدى زكاة ماله)) .
أنا لا أقول هذا تصوراً أو تخيلاً ، ولكن أقول هذا عن وقائع اطلعت عليها ، فتجد هناك شخصيات مضحكة ، يترك الفرائض ويعنى بغير الفرائض ، يحرم أولاده ليذهب إلى العمرة كل عام ، وأولاده في أمس الحاجة إليه ، لذلك المؤمن يجب أن يعرف أي شيءٍ يفعله ، ما علاقته بجوهر الدين ؟
هذا مثل يقرب هذا الموضوع : هذه السيارة ، لو فرضنا أن رجلاً في طريقه سفر طويل، وأصاب المحركَ خللٌ خطير ، وجد خللا في آخر الباب ، يا ترى أيهما أهم ، أن تصلح خلل الباب ، أم أن تصلح خلل المحرك ؟ هذا الذي يدع المحرك معطلاً ، ويهتم بإصلاح باب السيارة ، ويتألَّم لهذا الخلل ، وينسى أن هناك خللاً أخطر ، وهو المحرك ، هذا ما عرف أن المحرك هو جوهر السيارة ، وأن هذا الباب يمكن أن يبقى بهذا الوضع إلى نهاية الطريق ، فهذا المثل يوضح بعض حقائق الدين .
((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)) .
بالمناسبة العدل قسري ، أما الإحسان فطوعي ، ومع أن الله سبحانه وتعالى يقول :
( سورة النحل : من آية " 90 " )
العدل قسري ، يعني قبل أن تفعل النوافل عليك أن تؤدي الحقوق ، عليك أن تتقن عملك ، عليك أن تنفع المسلمين ، مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله )) .
(من الجامع الصغير : عن " جبير بن مطعم)
الأقربون أولى بالمعروف ، الأقربون إليك أولى بمعروفك لأنك تعرفهم ، فالذي أريده أن الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي أكَّد أن الشيء الذي يدفعك إلى الله سريعاً ، أن تقوم بالفرائض ، لذلك لا تقبل نافلة إلا إذا أديت الفريضة .
امرأةٌ مثلاً تصلي قيام الليل ، والله شيء جميل جداً ، تصلي صلاة الأوابين ، تصلي الضحى ، ومظهرها في الطريق فيه خلل ، معصية للشرع ، فأيهما أولى أن يكون مظهرها في الطريق إسلامياً ، تطبق فيه الشرع ، هذه أولى من هذه ، يعني في عندنا بالتعبير الحديث ( سلم الأولويات ) ، يجب أن تبدأ بالأولويات ، فكلما انتهيت من شيء أساسي انتقلت إلى شيءٍ آخر ، أما أن تبدأ بالثانويات ، وتدع الأشياء الأساسية ، هذا ليس من الاستقامة في التفكير في شيء .
والفقرة الثالثة من الحديث : ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ)) .
الآن جاء دور النوافل ، بعد الفرائض جاء دور النوافل ، صلى الضحى ، لماذا صلى الضحى ؟ لأنه يحب الله عزَّ وجل ، أدى زكاة الفريضة ، ودفع فوق الزكاة مثل الزكاة صدقة، رعى إخوانه ، رعى جيرانه ، رعى أولاده وهو ملزمٌ بهم ، ورعى يتيماً غير ملزمٍ به ..
((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ)) ، وما يزال ، مداومة ، استمرار ، يتقرب ، ويتقرب ، ينفق فوق الزكاة ، يصلي فوق الفرائض ، يصوم فوق رمضان زيادة عن رمضان، يفعل الصالحات ، يخدم الناس .
((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)) ، إلى أن يبلغ هذا العبد أن يحبه الله عزَّ وجل .. ((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ)) ، يطعم الحيوان ، " ليس كل مصلٍ يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكفَّ شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي ، وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب " ..
((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)) ، وإذا أحبك الله نلت كل شيء ..
فليتك تحــلو والحيـاة مريرةً وليتك ترضـى والأنام غضابُ
ولــيت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبيــن العالمين خرابُ
إذا صح منك الوصل فالكل هينٌ وكـل الذي فوق الترابِ ترابُ
* * *
والله يا أيها الإخوة ، إن شعور الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى يحبه ، هذا الشعور والله يفوق أن تملك الدنيا بأكملها ، قبل درسين أو أكثر أو في الدرس الماضي ، ثمة إنسان يملك محل في مكان مهم جداً ، يقول لك : هذا المتر منه بخمسمئة ألف ، لا يكلَّم ، تريد أن تبيع المحل ؟ لا يتكلم ، فقط يرفع رأسه ، محلان ، ثلاثة ، محل وطابق ومكتب ومستودع كامل ، شارع بأكمله وعلى الصفين ، كل الشوارع التجارية الضخمة في المدينة تملكها أنت ، وكل الشوارع التجارية في العالم كلها تملكها أنت ، وكل الشركات ذات الجنسيات المتعددة الضخمة ، التي ميزانية أحدها كميزانية مجموعة دول ، كل هذه الشركات تملكها أنت ، وكل ناقلات النفط لك ، وكل شركات الطيران لك ، والله الذي لا إله إلا هو لا تعدل هذه كلها أن يحبك الله عزَّ وجل .
((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ)) ـ هنا ـ ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) ، كيف ؟ هذا الحديث مشكل ، الله سمعنا ؟! معنى الحديث يعني : كنت حافظاً لسمعه ، هذا السمع أحفظه له ، وهذه العين أحفظه له ، وهذا اللسان أحفظه له ، وهذه اليد أحفظها له ، وهذه الرجل أحفظها له ، كنت سمعه هذا المعنى الأول .
المعنى الثاني : إذا فعل الفرائض ، وفعل النوافل ، وأقبل علي ، استنار قلبه بنوري ، عندئذٍ لا يسمع إلا الحق ؛ لا يسمع الغناء ، ولا الفحش ، ولا البذاءة ، ولا الكلام الفارغ ، ولا الغيبة ، ولا النميمة ، ولا كلام السوء ، فهذا السمع صار مصوناً بنور الله ، هو استقام على أمره ، أدى الفرائض ، وأدى النوافل ، وأقبل على الله عزَّ وجل ، فاستنار قلبه عندئذٍ حفظ الله له سمعه ، ما عاد يمضي الساعات الطويلة في سماع ما لا يرضي الله عزَّ وجل ، وما عاد يمضي السهرات الطويلة في القيل والقال ، وفي الخلافات والمشكلات ، ما عاد حديثه عن النساء ، ما عاد مزاحه رخيصاً .
((كُنْتُ سَمْعَهُ)) ، فصار إنسانًا كاملا ، لا يسمع إلا الحق ، ويطرب للقرآن ، أنا أقول لكم : والله الذي لا إله إلا هو لو جمعت ذواقي الغناء في العالم ، ما بلغ طربهم بما يستمعون إليه طرب المؤمن للقرآن ، هذه الأذن تسمع القرآن ، تسمع مدح النبي العدنان ، تسمع الحق ، تسمع النُصح ، تسمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
المعنى الأول : أحفظ له سمعه ، كنت حافظاً سمعه ، المعنى الثاني: مادام قد أقبل علي، عندئذٍ أحفظ له سمعه من أن يسمع باطلاً .
((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) .. أي كنت حافظاً لبصره ..
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ((عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) .
(الترمذي)
فهذه العين التي تطيع الله فيها الله سبحانه وتعالى يحفظها لك ، والقصة الشهيرة تعرفونها قلتها كثيراً ، هذا العالم الجليل الذي بلغ السابعة والتسعين ، وقد بدأ بتعليم الطلاَّب العلم الشريف الشرعي في الثامنة عشر من عمره ، يعني ظل يعلم سبعين عاماً ، وكان إذا رأى أحد طلابه في الطريق قال له : يا بني أنت كنت طالبا عندي ، وكان أبوك طالبا عندي ، وكان جدك طالبا عندي ، علَّم ثلاثة أجيال ، وهذا الذي بلغ الثامنة والتسعين وكان صحيحاً ، حاد البصر ، مرهف السمع ، منتصب القامة ، أسنانه في فمه ، نشيطًا قويًا ، فكان طلابه يسألونه سؤال المستعلم : يا سيدي ما هذه الصحة التي حباك الله بها ؟ كان يقول قولته الشهيرة: يا بني حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، من عاش تقياً عاش قوياً .
هذه : ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) .
حفظت له سمعه من أن يتلف ، وحفظت له سمعه من الباطل ، ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) .
وكذلك البصر .
الآن : ((وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا)) .
فهذه اليد لا تفعل إلا حقاً ، لو أنها ضربت تضرب بالحق ، تمسك بالحق ، تلمس بالحق ، هذه اليد لا يمس بها يد امرأةٍ لا تحل له ، ((وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا)) ، أي أحفظ له يده عن أن تفعل منكراً ، عن أن تفعل باطلاً ، عن أن تعتدي ، عن أن تفعل ما لا يجوز وما لا يرضي الله عزَّ وجل ..
((وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)) .
كذلك حركاته إلى المساجد ، إلى الإصلاح بين الناس ، إلى خدمة الخلق ، إلى الدعوة إلى الله، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلى عمله ليكسب منه رزقه .
من لوازم حب الله تعالى لهذا الإنسان ، ((وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ)) .
صار الإنسان غاليًا على الله عزَّ وجل ، صار هذا الإنسان مستجاب الدعوة ، غالٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ))
(من صحيح مسلم ، عن " أبي هريرة )
إذاً : ((وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ)) ، وفي الحديث الشريف : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) .
إذا كان هواه علوياً ، وتبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، صار سمعه ، وبصره ، ويده ، ورجله ، هذه كلها أصبحت تعمل وفق الأمر والنهي .
الآن : ((وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)) ، إن سألني أعطيته ، أمـا ولئن أعاذني لأعيذنه ، هذه النون للتوكيد ، لماذا جاء هنا نون التوكيد ؟ قيل: لأن درء المفاسد مقدمٌ على جلب المنافع ، الإنسان أحياناً يفزع ويطلب من الله الإكرام ، لكن دفع الفزع عنه ، ودفع الضر عنه، ودفع المصيبة عنه ، أوقع عنده من جلب المنفعة ، لذلك ربنا سبحانه وتعالى مبالغةً في تطمين هذا المؤمن الذي أحبه الله عزَّ وجل ، يقول : ((وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)).
على كلٍ هذا الحديث أتمنى عليكم أن تعودوا إليه ، وأن تقرؤوه في كتاب رياض الصالحين ، في باب علامات حب الله تعالى العبد ، والحث على التخلق بها ، والسعي في تحصيلها .
أولاً فيه موضوعات دقيقة : ألا تؤذي أولياء الله ، وأن تفعل الفرائض ، وأن تتقرب إلى الله بالنوافل ، وعندئذٍ تقطف الثمار والنتائج ، طبعاً هذا الحديث أيضاً رواه البخاري كما قلت قبل قليل .
***
والآن ، إلى قصة سيدنا حمزة رضي الله عنه
قبل أن نتحدث عن بعض اللقطات عن هذا الصحابي الجليل ، سيدنا حمزة بن عبد المطلب ، كانت مكة قبل أن يظهر الإسلام حافلةً بألوان اللهو، وكانت المدينة الأولى في الجزيرة ، والقرشيون منغمسون في تجارتهم ، وملذَّاتهم ، ولهوهم ، وتباهيهم ، وتفاخرهم ، والنبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان مشغولاً بربه ، كان يمضي الليل والنهار في التفكر في خلق السماوات والأرض ، كان يمضي الليل كله في مناجاة ربه.
لذلك هذا النبي العظيم إضافةً إلى عبادته ، وإلى حبه ، كانت له أخلاقٌ سامية ، هذه الأخلاق السامية ظاهرة ، ظاهرة العيان ، فأولي العقل واللب ، هؤلاء الذين عاشوا مع النبي ؛ ممن جاوره ، ممن لاذوا به بقرابة، ممن كانوا معه ، ممن كانوا في سنه ، ممن تعاملوا معه قبل البعثة ، طبعاً دهشوا لأخلاقه الرضيَّة ، دهشوا لعفَّته ، دهشوا لصدقه ، لأمانته ، لتعففه .
فأهل قريش ، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يبعث بعد ، كان عليه الصلاة والسلام معقد أنظارهم ، وكان يلفت نظر الناس من حوله لما يتحلى به من أخلاقٍ رضية ، شيءٌ لطيفٌ في قصة النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يمضي معظم الوقت متهجداً ، مرةً قالت له زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها : ابقِ نائماً ، أو خذ قسطاً من الراحة ، فقال قولته الشهيرة : (( يا خديجة لقد انقضى عهد النوم )) .
انظر الإنسان كيف يمضي وقته ؟ الوقت ثمين جداً ، والحديث في الخطب السابقة عن الوقت: (( يا خديجة لقد انقضى عهد النوم)) .
فالإنسان يراقب نفسه ، كيف أمضيت هذه الساعة ؛ في لهوٍ ، في نومٍ ، في طلب علمٍ ، في خدمة الناس ، في قراءة القرآن ، كيف أمضيتها ؟ ما الذي يقلقني ؟ ما الذي يهمني ؟ ما الذي أفرح له ؟ ما الذي أرجوه ؟ ما الذي يخيفني ؟ قل لي ما الذي يخيفك أقل لك مَن أنت ، قل لي ما يرضيك أقل لك من أنت ، ربنا عزَّ وجل يقول :
( سورة الصافات )
( سورة يونس : من آية " 58 " )
فرحك ، وغضبك ، وحزنك ، ورجاؤك ، وطموحك ، وهدفك ، هذا يحدد هويتك . فالنبي عليه الصلاة والسلام قال : ((انقضى عهد النوم يا خديجة )) .
أمر النبي كان معقد نظر أهل قريش ، وكان سيدنا حمزة ، رضي الله عنه ترب النبي e ، هو عمه ، ولكنه في سنه ، كان ترب النبي ، وكان أخاه من الرضاعة في الوقت نفسه ، وكان ذكياً وعاقلاً ، وكان حصيفاً إلا ، أنه سلك مسك زملائه من الشباب حينما أقبل على الدنيا .
النبي عليه الصلاة والسلام أقبل على ربه ، وهو أقبل على الدنيا ، ولكن لا يخفى أن هذا الصحابي الجليل كان على مستوىً رفيع من العقل ، ومن الشجاعة ، والمروءة ، ولكنه انصرف إلى ما انصرف إليه الناس ، أحياناً تجد إنسان يقع في مخالفة ، لكن له معدن طيب ، له معدن نبيل ، عنده مروءة ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام : ((خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام )) .
( من مختصر تفسير ابن كثير : عن " أبي هريرة " )
هؤلاء الذين أسلموا لهم جاهلية ، ولكنهم وهم في جاهليتهم كانوا كراماً ، كانوا أصحاب مروءة ، كانوا أصحاب إنصاف ، فسيدنا حمزة مع أنه سلك مسلك أترابه قبل البعثة ، لكنه يعرف أنه لسيدنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام شأناً كبيراً ، يعرف أن ذا أخلاقٍ رفيعة ، هذا الذي عرفه عن النبي كان ممهداً لإسلامه .
كان سيدنا حمزة لا يعرف النبي عليه الصلاة والسلام معرفة العم بابن أخيه ، كانت معرفة الصديق للصديق ، والأخ للأخ ، كان تربه وكان أخاه من الرضاع ، طبعاً حينما نشئا نشآ معاً ، ولعبا معاً ، وتآخيا معاً ، وسارا معاً ، لكن النبي أقبل على ربه ، وسيدنا حمزة اتجه إلى ما اتجه إليه الناس .
في صبيحة أحد الأيام خرج سيدنا حمزة كعادته إلى الكعبة ، وعند الكعبة وجد نفراً من زعماء قريش ، فجلس معهم يستمع لما يقولون ، وكانوا يتحدَّثون عن سيدنا محمد ، ولأول مرة رآهم يقلقون من دعوة ابن أخيه ، وتظهر في أحاديثهم نبرة الحقد والغيظ والمرارة ، هو أعلن عن عدم مبالاته ، وخفف عنهم ، وقال : أن الأمر ليس خطيراً ، وهم يعرفونه أنه يعرف حجم هذه الدعوة الجديدة .
الشيء الذي يلفت نظرنا في هذه السيرة ، أنه خرج مرةً من داره متوشِّحاً قوسه ، ميمِّماً وجهه شطر الفلاة ، ليمارس هوايته المحببة وهي الصيد ، وكان صاحب مهارةٍ فائقةٍ فيه ، وقضى هناك بعض يومه ، ولما عاد من قنصه ـ أي من صيده ـ ذهب كعادته إلى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعاً إلى داره ، وقريباً من الكعبة لقيته خادمةٌ لعبد الله بن جُدعان ، ولم تكد تبصره حتى قالت له : يا أبا عمارة ، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمدٍ آنفاً من أبي الحكم بن هشام ، وجده هناك جالساً ؛ فآذاه ، وسبَّه ، وبلغ منه ما يكره .
هو في الجاهلية ، لم يسلم بعد ، لكن أعماقه تحب النبي ، صديقه ، وتِرْبَه ، وأخاه من الرضاع ، ونشأ معه ، والعاقل والذكي يقدِّر ، مضت هذه الخادمة تشرح لسيدنا حمزة ما صنع أبا جهلٍ برسول الله ، واستمع هذا الصحابي الجليل لقولها جيداً ، ثم أطرق لحظةً ، ثم مد يمينه إلى قوسه فثبَّتها فوق كتفه ، ثم انطلق في خطىً سريعة حازماً صوب الكعبة ، وفي هدوءٍ رهيب تقدَّم حمزة من أبي جهلٍ ، ثم استلَّ قوسه ، وهوى به على رأس أبي جهل فشجه وأدماه ، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة ، صاح حمزة في أبي جهل : أتشتم محمداً ، وأنا على دينه ، أقول ما يقول ، ألا فرد ذلك علي إن استطعت .
هذا الصحابي الجليل ، عم النبي عليه الصلاة والسلام ، أسلم في ساعة غضب ، هناك أشخاصٌ يسلمون بعد التروي ، والأخذ والرد ، والمحاكمة ، والحسابات ، في هذه اللحظة التي لم يحتمل أن يصاب ابن أخيه بالأذى من قبل أبي جهل ، أعلن إسلامه صراحةً ، وانتهى الأمر .
لكن بعد أن أسلم شعر أن هذا الدين فيه التزامات ، وأنه ترك دين آبائه ، هذه فطرة بالإنسان ، لأن الإنسان يكره ترك ما ألفه ، قال المتنبي :
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
* * *
الإنسان أحياناً يتألم من ترك بيته ، من ترك مركبته ، الفراق صعب، فهذا معجب بسيدنا محمد ، لكنه على دين آبائه وأجداده ، معجب فيه أخلاقياً، سلوكياً ، ومحبته له دفعته إلى هذا الموقف ، لكنه أسلم الآن ، ومعنى أسلم ، أي عليه التزامات ، ومواقف ، وانحياز من فريق إلى فريق ، وسيدنا رسول الله اللهم صلِ عليه حينما قال على سيدنا الصديق : ((ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر)) .
( من مختصر تفسير ابن كثير )
فسيدنا حمزة أعلن إسلامه ، وترك هذا الجمع الذاهل يجتر خيبة أمله ، وأبا جهلٍ يلعق دماءه النازفة من رأسه المجروح ، ومد حمزة يمينه مرةً أخرى إلى قوسه ، فثبتها فوق كتفه ، واستقبل الطريق إلى داره في خطواته الثابتة ، وبأسه الشديد .
وفي البيت وقع في صراعٍ مع نفسه ؛ ترك دين آبائه ، لم يألف هذا ، لم يعرف ما الإسلام، ما حقيقته ، وغير ذلك ، هذا الصراع والأخذ والرد، والتمزق الداخلي ، ألجأه إلى أن يطوف حول الكعبة وأن يستخير الله عزَّ وجل ، يروي ويقول : ثم أدركني الندم ـ على هذا الإسلام ـ على فراق دين آبائي وقومي ، وبت من الشك في أمرٍ عظيم لا أكتحل بنوم ـ ما عاد نام ـ ثم أتيت الكعبة ، وتضرَّعت إلى الله تعالى أن يشرح صدري للحق ، ويذهب عني الريب ، فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقيناً ـ لأنه طالب حق وصادق ـ وغدوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته بما كان من أمري ، فدعا الله أن يثبِّت قلبي على دينه " .
وهكذا أسلم سيدنا حمزة ، من عمالة الإسلام ، من عمالقة المسلمين، وله أعمال عظيمة جداً ، ومن ذهب إلى المدينة المنورة في مزار لسيدنا حمزة بأحد ، مزار كبير إذا وقف عند هذا المزار عند قبره رضي الله عنه ليذكر هذه المواقف القادمة .
الله سبحانه وتعالى أعز الإسلام بحمزة ، فإذا كان للإنسان شأن ، غني ، عالم ، وظف قوته وغناه وعلمه للحق فهذا شرف له ، أعز الله الإسلام بحمزة ، ووقف شامخاً قوياً يذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن المستضعفين من أصحابه .
منذ أن أسلم سيدنا حمزة ، نذر كل عافيته ـ دققوا في هذه الكلمات ـ وكل بأسه ، وكل حياته لله ولدينه ، حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم فقال : ((حمزة أسد الله وأسد رسوله)) .
نذر كل عافيته ـ كل صحته ـ وكل بأسه ـ شجاعته ـ وكل حياته ، وكل ماله لله ولدينه ، والإنسان سبحان الله إذا وزن نفسه مع هؤلاء يتلاشى نهائياً ، ماذا فعلت أنت ؟ نحن ماذا فعلنا ؟ ماذا قدَّمنا ؟ نقدم شيئاً يسيراً ونمن على الله به ، نذر كل وقته ، كل بأسه ، كل حياته ، كل عافيته، كل ماله لله ولدينه ، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام خلع عليه هذا اللقب فقال : ((حمزة أسد الله وأسد رسوله )) .
في درسٍ قادم إن شاء الله تعالى ، نتحدث عن موقفه الشريف والشجاع يوم بدر ، وعن موقفه البطولي يوم أحد ، وكيف استشهد يوم أحد ؟
والحمد لله رب العالمين