القمة والهوة الشيخ الدكتور على بن عمر بادحدح 2024.

القمة والهوة .. الشيخ الدكتور على بن عمر بادحدح
القمة والهوة .. الشيخ الدكتور على بن عمر بادحدح

دار


القمة والهوة .. الشيخ الدكتور على بن عمر بادحدح

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}[النساء: 1].
قمة عالية وهوة سحيقة، قمة سامية وهوة سافلة، مكانة رفيعة ودناءة وضيعة، فرق هائل وبون شاسع ومسافة لا يمكن تصورها؛ بين أمر هو من أعظم وأجلّ أمور ديننا، وهو أبرز وأظهر معالم سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو أجلى وأنقى صفات هذه الأمة الإسلامية، ومع ذلك الفرق كبير ما بين هذا وما بين الواقع، لا نقوله ليكون العنوان تيئيساً أو إحباطاً وإنما تغييراً وتحسيناً ومراجعة وتقويما.
الحق سبحانه وتعالى امتدح أعظم الخلق والبشر أجمعين سيد الأولين والآخرين فقال جلّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]
والمتأمل هنا يلمح وجه القمة والمكانة التي أشرت إليها فهذا هو أشرف الخلق ومادحه هو رب الخلق فلا بد أن يكون وجه المدح هو أعظم ما يمكن أن يكون على الإطلاق: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} والمصطفى صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق إيماناً وأعظمهم عبادة ومع ذلك جاء المدح والوصف بالخلق وليس بالإيمان والعبادة.
لماذا؟
لأسباب كثيرة ربما نبرز منها اثنين
الأول: أن هذا الجانب هو الذي يراه الناس وينتفعون به ويحصل لهم أثر بوجوده، فإن كنتُ قائماً الليل كله أو صائماً النهار كله أو تالياً القرآن كله لا ينفعك شيء من ذلك وإنما ينفعك صدق القول وحسن المعاملة وإنفاذ الوعد وغير ذلك، فلما كان الخلق هو الجانب الذي يتصل بالناس ويرون أثره وينتفعون به جاء المدح به؛ لأن الجانب الآخر إنما هو بين العبد وربه.
والأمر الثاني وهو ربما أكثر أهمية، فإن في هذا المدح بهذا الاختصاص إشارة عظيمة إلى أن ثمرة الإيمان الكامل وثمرة العبادة الخالصة هو الخلق العظيم، فإن هذا الإيمان ليس منبتاً بحال عن الخلق والعبادة ليست مفصولة عنه بل كلها تغذيه وتنميه وتوجده وتحسّنه، ومن هنا كان أعظم الخلق إيماناً وعبادة أعظمهم خلقاً بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال الطبراني: "أدب عظيم وذلك هو أدب القرآن الذي أدّبه الله به وهو الإسلام وشرائعه"، وهذا القول كما نعلم جاء إيجازه بصورة فريدة من حيث قوة المعنى ومن حيث وجازة اللفظ ومن حيث خصوصية المتكلم، عندما سأل سعد ابن هشام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أخبريني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: "أتقرأ القرآن؟
قال: نعم، قالت: كانت خلقه القرآن {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}"، القائل أم المؤمنين وهي التي عاشرت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرب في كل أحواله وأدقّ خصائصه، وأرادت أن تجمع وتوعي فقالت: "خلقه القرآن"، فانظر ما فيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وانظر ما فيه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، واقرأ ما فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، واقرأ واقرأ ما فيه من كل الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة فإنك واجد صورتها في قوله وفعله وحياته وحركاته وسكناته وحله وترحاله وسلمه وحربه وفي خلوته وجلوته وفي سائر أحواله عليه الصلاة والسلام.
وإليكم ومضة أخرى في العظمة المتركزة الآن في النموذج والقدوة عليه الصلاة والسلام، قبل البعثة عرفه قومه بهذه السمة بالمعاملة بالأخلاق فلقب بالصادق الأمين، وأبو ذر رضي الله عنه لما سمع مبعث محمد صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه إلى مكة وقال: "انظر لي خبر هذا الذي خرج في قريش"، فذهب ومكث في مكة واستمع ثم رجع، فأوجز القول عندما رجع إلى أبي ذر فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر"، قال: "ما شفيتني"، ثم مضى أبو ذر بنفسه، لكن الذي يلفت النظر أن الرجل عندما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع قوله وتقصّى خبره كانت الخلاصة التي ظهرت له بجلاء ووضوح أنه كان يأمر بمكارم الأخلاق.
وعندما تحدث جعفر بن أبي طالب في الحبشة بين يدي النجاشي ليعرّف بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به قال: "وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة"، لم يذكر هنا صلاة طويلة ولا صياماً ولا تشريعات وإنما الخلاصة الجوهرية.
أتريدون أن تروها وتدركوها أيضاً في قول من أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، فيما روى أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فهذا سيد الخلق يمدحه رب الخلق بأعظم الخُلق ثم يقول إن بعثته كلها ورسالته كلها وشريعته كلها إنما جاءت لتتمم مكارم الأخلاق، وإنما هنا أسلوب حصر وقصر أي أن الغاية العظمى والخصيصة الكبرى لهذه الرسالة وهذه البعثة هي تتميم (مكارم الأخلاق) وفي رواية (صالح الأخلاق) وفي رواية (حسن الأخلاق)، وقد روى هذه الرواية الأولى الحاكم في مستدركه على شرط مسلم ووافقه الذهبي وروايات الحديث صحيحة بألفاظه المختلفة.
وإذا تأملنا هنا فإننا نجد الوصف العام مرة أخرى ليس قبل الإسلام وليس في أول البعثة وإنما بعد امتداد الإسلام، فهذه مرة أخرى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: "ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: (لبيك)".
وانظروا إلى جانب أدق وكلنا يعرفه لكننا نحتاج إلى التأمل والتطبيق، فهذا أنس رضي الله عنه يقول: "خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء لم أفعله لم تفعل ولا لشيء فعلته لم فعلت"، سبحانك ربي كيف كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحسن معاملة الخلق بل حتى البهائم بحيث لا يحتاج إلى أن يقول لا ولم؟ ولا أن يعنّف ولا أن يشتد بقول فضلاً عن أن يعتدي بفعل فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كما وصف: (لم يضرب امرأة ولا بهيمة قط).
وهذا جرير بن عبدالله وهو ممن تأخّر إسلامه يقول: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسّم"، وقلت له: "يا رسول الله إني امرؤ لا أثبت على الخيل"، فضرب على صدري وقال: (اللهم ثبته واجعله هادياً مهديا)، "ما حجبني وما رآني إلا تبسّم"!
لو قلتُ لأحدنا هل إذا رأيت ليس كل أحد بل حتى أبناءك أو زوجتك تتبسّم؟

هل نحن نسخو بهذه الأخلاق؟
لست اليوم أتحدث عن الخُلق وإنما أتحدث عن القمة العالية والمكانة الرفيعة لنرى من بعد الهوة السحيقة حتى ندرك الخطر الذي نحن فيه والمعضلة التي تحتاج إلى أن نبادر جميعاً إلى علاجها، فإذا كان الأمر كما أشرت وبيّنت بهذه الومضات القليلة وأضيف إليها ما أضافه النبي صلى الله عليه وسلم ليجعل لنا صورة أحسب أن اجتماعها واكتمالها بنصوصها ونحن إنما نوجز في هذا المقام يجعلنا أمام رؤية أحسب أنها غائبة أو غائمة أي ليست واضحة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بحديثه فيقول: (إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق ويكره سفسافها)، إنه يرقى بالخُلق ليكون هو موضع محبة الله ومحبة العبد لمن يتحلى بالخلق الحسن وكره تلك الأخلاق الفاسدة وسفسافها كما ورد في نص الحديث.
بل هو صلى الله عليه وسلم وهو الممدوح بالخلق جعل في دعائه وهو من صيغ بعض أدعية الاستفتاح: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني شر الأخلاق فإنه لا يقي شرها أو سيئها إلا أنت).
فإذاً هذه هي الصورة، دعونا ننتقل إلى إكمالها فيما يشغلنا أو أحسب أنه ينبغي أن يشغلنا، ألسنا نريد الجنة ومراتبها والفوز برضا الرحمن ونعيم الجنان؟ ألسنا نبحث عن الحسنات؟ وفي مقابل ذلك نتوقى ما يفضي إلى غضب الجبار أو يترتب عليه العذاب يوم القيامة؟
كلنا ذلك الرجل، وكلنا تنصرف أذهاننا حينئذ إلى كثرة الصلاة أو الصيام أو التلاوة أو الذكر أو الإنفاق أو غيرها من الأعمال التعبدية المباشرة أو المتعدية، ولكن انظروا إلى جانب يجعل هذه القمة مؤكدة مرسخة معززة مرة إثر مرة فها هو عليه الصلاة والسلام يوجز مرة أخرى فيقول: (إن من أقربكم مني مجالساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) رواه الإمام أحمد في مسنده، وفي رواية في السنن، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون أيكم أحب إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة)، قالوا: "بلى يا رسول الله"، قال: (أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون)، وفي الحديث الآخر: (إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
إنها منافسة في الأجر والمثوبة لا تقل عن العبادات والطاعات التي نتسابق إليها وننشغل بها وحُقّ لنا ذلك لكننا هناك في الجانب الآخر مفرطون أو مقصرون: (أنا زعيم لبيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً، وزعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً، وزعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خلقه)، كل الدرجات مرتبطة بمحاسن الأخلاق، وغير ذلك كثير، (ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق).
إذاً انظروا إلى هذه القمة لنرى أنها أعظم مدح لأعظم بشر، وأنها أعظم خلاصة للرسالة الخاتمة ولننظر أيضاً أنها تجمع محاسن ومجامع الخير كله من فوز بالجنة ونجاة من النار وكثرة للحسنات ومحو للسيئات، ولو أخذنا المقابل لوجدنا ذلك أيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أهل الجنة فقال: (كل هيّن ليّن قريب)، ولما سئل عن أهل النار، قال: (كل عتلّ جواظ مستكبر) أي أخلاقه سيئة، وكلكم يعرف حديث أبي هريرة رضي الله عن: (الرجل يأتي يوم القيامة وعنده صلاة وصيام ولكنه يأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته ويأخذ هذا من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار).

الراوي: أبو هريرة المحدث:مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2581
خلاصة حكم المحدث: صحيح

والسؤال في هذا المقام: أين نحن من خلق القرآن؟
أين نحن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في أخلاقه العظيمة؟

وأين نحن من تمثيل هذا الدين العظيم؛ لأن رسالته وعنوانه هي الأخلاق العظيمة الكريمة.
وكما قلت هذه القمة.. هناك الهوة التي قد أشير إليها إشارات عامة جامعة ليكون لنا من بعد ربما بعض التفصيل فيها، أول أمر وأخطره هو الجهل بحقيقة الخلُق ومكانته وطبيعته، فتلك هوّة ساحقة فإن كثيرين يفصلون بين الإيمان أو العبادة والأخلاق، وبدأ الناس ينظرون إلى أمر يحصل لهم به شيء من التعجب كيف يكون المرء في الصف الأول مسابقاً إلى الصلاة ثم يكون فضّ القول غليظ المعاملة كاذباً في قوله أو مخلفاً في وعده أو غير ذلك، ما ينبغي أن نعالجه أولاً أن الإيمان والأخلاق أمران متكاملان، وجهان لعملة واحدة، وخذوا إن شئتم صفات الإيمان وأهل الإيمان في القرآن لتنظروا إلى اجتماع صفات الإيمان والعبادة مع الأخلاق مرة واحدة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]

تلك عبادة، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون : 3]
تلك أخلاق، {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]
تلك عبادة، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون : 5] تلك أخلاق؛ كلها صفات تدل على الإيمان وهي جزء منه.
ولو أردتم في ذلك وجدتم الآيات الكثيرة الجامعة ما بين هذه الخصال كلها، ونبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا بشكل واضح عندما يقول: (الحياء شعبة من الإيمان)، وعندما يخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن: (إماطة الأذى درجة من درجات الإيمان)، وعندما يبين لنا أن: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره فليكرم ضيفه فليقل خيراً أو ليصمت)، وكلها من سمات الأخلاق والمعاملات، فأين نحن من ادعاء كمال الإيمان أو قوة الإيمان مع التجرّد أو الضعف في الأخلاق.
وإذا جئت إلى العبادة فأنت كذلك هاهنا: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، إن لها ثمرة أخلاقية، إن لها نتيجة سلوكية، إن لها إن كملت في أركانها وواجباتها وفي روحها وفي حقيقتها لا بد أن تنعكس على هذا النحو.

إنما تُتقبل ممن ظهرت الآثار السلوكية والخلقية عليه في معاملته للناس وليس الذي يجعل هناك انفصالاً وانبتاتاً لا تأثير لهذه العبادات على تلك الأخلاق، (خذ من أموالهم صدقة تطرهم وتزكيهم بها)، تزكية النفوس من الأخلاق الرذيلة عند الأغنياء بتطهيرهم من البخل والشحّ وعند الفقراء بتطهيرهم من الحسد والطمع، إذا لم تثمر كذلك فيكون الأثر قاصراً وتكون النتيجة غير مكتملة ومثل ذلك في الحج: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، وفي الصوم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، لا بد أن ندرك أن ثمرة ديننا وخلاصة رسالة نبينا كل شيء فيها متصل بالأخلاق غير منفصل عنه حتى في معاملة الرجل زوجه وأبناءه، كم من النصوص آيات وأحاديث نجدها هنا حتى في الاقتصاد والمعاملات المالية كم من الآيات والأحاديث نجدها تعزز الأخلاق وتؤكد وجودها وحضورها في هذه المعاملات، ومثل ذلك في كل جانب من جوانب هذه الحياة، فهذه هي مبدأ الهوّة إذا لم نفقه ونفهم وإذا لم نربط ونوثق الصلة وإذا لم نجعل المقياس مرتبطاً بالآثار السلوكية تقويماً وتسديداً فإننا نجعل هذا الفصل الذي يجعل هناك خللا واقعيا ما بين تلك القمة وتلك الهوّة.
اللهم إنا نسأل كما حسّنت خَلقنا أن تحسّن أخلاقنا، وأن تهدينا لأحسن الأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأن تعيذنا من سيء الأخلاق فإنه لا يعيذ منها إلا أنت.
الخطبة الثانية:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن حسن الخلق من تقوى الله، وإن تقوى الله متممة لحسن الخلق، فقد ورد في سنن الترمذي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أكثر ما يدخل الناس الجنة"، فأوجز وأبلغ عليه الصلاة والسلام فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، جناحان لا طيران إلا بهما، وصفتان لا اكتمال لسمت الإسلام ولكمال الإيمان إلا بهما، ينبغي أن نحرص عليهما.
أردتُ أن أقول في هذه المعاني أن ديننا وقرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما جاء به رسولنا عليه الصلاة والسلام هو قمة عالية لا مثيل لها ولا موازي لها بحال من الأحوال تؤكد وتقرر أن الخلق هو الأكثر أهمية وتأثيراً وانعكاساً للإيمان والعبادات وسائر المعاملات وأن هذه القمة لما تربع عليها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم سبى الأنظار واستمال النفوس وأقنع العقول وأقبل بالقلوب إليه ولان له كل صعب بفضل الله واستطاع بدعوته الخلقية أن يغير الغلاظ الشداد والأفظاظ الذين كانوا من الأعداء، فصفوان ابن أمية يقول: "ما كان أحد أبغض إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يعطيني ويعطيني حتى ما أحد من الخلق أحبّ إليّ من رسول الله عليه الصلاة والسلام"، وكم من قادم إليه كان يضمر له شراً ويتكلم عليه بسوء فإذا به يحاصَر بحسن خلقه فيطهّر شيئا من أدرانه ويغير شيئا من أفكاره ويجعله يرجع بغير الوجه الذي جاء به كما كان الحال الذي جاء به الوليد ثم رجع فقال أبو جهل: إن صاحبكم رجع بوجه غير الذي ذهب به، وقال الوليد مقولته عن وصف ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تلا من الآيات والقرآن حتى قال: إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه والحق ما شهدت به الأعداء.
والله جلّ وعلا قد بيّن لنا ذلك في كثير من الآيات التي تبيّن أثر هذا الخلق في تغيير ما نريد ومن نريد تغييره كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، وانظر العداوة كيف تنقلب إلى ولاية ليس مجرد تغيير طفيف بل تغيير جذري.
ولكن سأذكر الآن عناوين الهوة السحيقة ليس على مستوى الفرد فحسب، وليس في ميدان الأسرة فقط، وليس في المجتمع الواحد المحدود وإنما في عموم الأمة وكذلك في المجالات الحياتية المختلفة.
فالسياسة إلا ما رحم الله كذب وتلون وغدر ليس فيها صدق قول ولا وفاء عهد ولا حسن معاملة، ولسنا بصدد المقارنة فيما جاء من هدي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والاقتصاد غلب عليه الغش والسرقة والاحتيال وارتكاب المحرم والبعد عن كل أمر متصل بالخلق إذا تجاوز أمر الربح والكسب وغير ذلك.
وإن جئنا إلى الأخلاق الأسرية وجدنا ضيقا في الصدور وتجهماً في الوجوه وشدة في الألفاظ وشقاقاً ونزاعاً كاد لا يبقي على وئام ومحبة في بعض أو في قدر غير يسير من الأسر.
وإذا جئنا إلى جانب المعاملة العامة في المجتمع بين الجيران وبين الأصدقاء وفي عموم الناس وجدنا ما يظهر أيضاً ضيق الصدور:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها *** ولكن أخلاق الرجال تضيق

وكما قال أيضاً أمير الشعراء:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

عندما يأتي إلينا من ليس من ديننا ما هي الصورة التي يخرج بها عنا في عموم مجتمعنا، ألا يرى الفوضى التي تناقض النظام؟
ألا يرى الواسطة التي تتعدى الحقوق؟

ألا يرى كثيراً من الأمور والأحوال التي هي منبتة عن تلك القمة وسائرة إلى تلك الهوة؟.
ولو أخذنا ذلك في مجالات كثيرة حتى نصل إلى الفرد الواحد منا لوجدناه كذلك، لوجدنا لديه من تجاوزات الأخلاق ما لا يلتفت إليه ولا يجده أمراً كبيراً بينما إن قصّر في جانب آخر من جانب العبادات المباشرة ربما اهتمّ واغتنم.
وربما نجد هناك من ينادي وينبّه وحقّ له ذلك ينبه الناس ألا يقصروا في الصلوات المفروضة ويبين لهم الخطر ويحذر الناس من عدم أداء الزكاة وما يترتب عليها من الوزر والوعيد، لكننا قليلاً ما نجد ذلك التنبيه بذات القدر وبذات الأهمية في هذا الأمر العظيم.
وهنا أستحضر كلمة قالها الإمام الشافعي رحمه الله لعلها تحسن أن تكون خاتمة في هذا المقام، قال: "بئس الزادليوم المعاد العدوانعلى العباد"، إذا كنت سيئا في خلقك مع الناس معتدياً عليهم بلفظك أو بفعلك فإن هذا هو أسوأ زاد سيكون لك بين يدي الله عز وجل يوم القيامة.
ثمة قمة هي مؤكدة مرسّخة، وثمة هوة نرى صوراً منها في الواقع، فإذا لم ندرك عظمة القمة ولم تتعلق بها قلوبنا ولم ترتبط بها أشواقنا ولم نسعى إليها في مناهج تعليمنا، ولم تكن قوام أساليب تربيتنا، ولم تكن هي الدعوة التي تنتشر في إعلامنا، ولم تكن هي السياسة التي تنتهجها حكوماتنا، فإننا سنظل بعيدين عن هذه القمة أفراداً ومجتمعات وأسوأ من ذلك أننا في مجموعنا كأمة لن نكون أمة هذه الأخلاق العظيمة والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم


أسأل الله العظيم ..
الرحمن الرحيم ..
المنان الكريم ..
رب العرش العظيم ..
الملك العليم ..
أن يدخلك جنة النعيم ..
ويحفظك من الشيطان الرجيم ..
ويعتق رقبتك من عذاب النار الأليم ..
ويحفظ بدنك سليم ..
ويهديك صراطه المستقيم ..
ويسقيك من عين تسنيم ..
ولا يطعمك من طعام الأثيم ..
ولا يذوقك من عذاب الجحيم ..

اللهم آمين

دار
داردار
اللهم ارزقنا افئدة كافئدة الطير
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة ومراقبتك في السر والعلن

دار
داردار
طرح قيم بحق
كلمات تستحق التمعن في معانيها
ومحاسبة النفس المقصرة

دار
داردار
جزاك الجنان وورد الريحان ثَقَل ميزانك بخيِرِ الأعمال
وأنار الله قلبك ودربك ورزقك برد عفوه وحلاوة حبه
حفظك المولى ورعاك …!!

دار
داردار

جَزآك آلمولٍى خٍيُرٍ " .. آلجزآء .. "
و ألٍبًسِك لٍبًآسَ
" آلتًقُوِىَ "وً " آلغفرآنَ "
وً جَعُلكٍ مِمَنً يٍظَلُهمَ آلله فٍي يٍومَ لآ ظلً إلاٍ ظله .~
وً عٍمرً آلله قًلٍبًك بآلآيمٍآنَ .~
علًىَ طرٍحًك آلًمَحِمًلٍ بنًفُحآتٍ إيمآنٍيهً .!

دار

دائما متميزة في الانتقاء
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك
لكـ خالص احترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Scroll to Top