أريكة الحرباء 2024.

أريكة الحرباء

ليلة خريفية باردة النسمات ، أبَت إلا أن يلامس نداها ماءً من نوع آخر ينحدر من مقلتين أضناهما الشعور بالذنب و خريف الأعمار ، و أن يُداعبَ نسيمها خصلات لحية بيضاءَ تهدلت على صدر أفعمته الأكدار .

على عتبة دار هجرها منذ الأمس القريب الزوجة و الأبناء ، تتوسط زقاقاً ينير عتمته بريق فانوس ضئيل ، يجلس العمّ حجّاج على أريكة خشبية نُقِش على ألواحها اللزجة تاريخ أسرة بأكمله ، و شهدتْ مساميرها الصدأة ألوانا من الابتسامة و الأحلام ، و أصنافا من الأهوال التي تشيب لها رؤوس الأطفال .

ضجيجُ أطيافٍ يحاصره من كل مكان ، يخطفه بعيداً ليحلق به بين ثنايا غيوم الزّمان .. يلتفتُ ذات اليمين و الشمال ، في انتظار تحية جار أو ابتسامة طفل عابر ، و من يدري ، ربّما يتحقق المستحيل و يستشعر يد زوجته أو أحد أبنائه تلامس كتفه بدفء و حنان . لكنه و للأسف لا يُبصر أمامه غيرَ مهرول يتجنبه ، أو شامتٍ ساخر ينظره بنصفِ عين .. لا سيّدة و لا سيّد ، لا ملتح و لا أمرد ، لا صاح و لا راقد ، لا أحد بالإطلاق يكترث لأمر سيفٍ حاقد ، لطالما بتر بحدّه أعناقَ رياحينَ أينعتْ في بيت صامد .

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمن ، يوم تربّع حبّ هند في قلب حجاج المنغلق على نفسه ، انسحب من حضن والديه المحافظين لينفرد بحضن محبوبته الموظفة التي تنتمي إلى أسرة تؤمن بالحداثة المتّزنة .

قصة حبّ عرفتْ صراعاً عنيفاً بين عائلتين، كلّ منها لها أسلوبها الخاص في الحياة . المحافظة ترى النّقاب الشامل واجب ، و تطوع المرأة للعمل من أجل مساندة الرجل أمر خائب ، فلا تلبث أن تنعت كل امرأة يهفو قلبها لمسايرة العصر بالكفر و التبرج ، واصفة إياها كما وصفها المتشددون من قبلها من أنها ( كسيجارة يدخنها المرء ، و لحظة ينتهي منها يفرك عقبها في المنفضة ) . بينما الأخرى تؤمن بكفاءة المرأة و اندماجها كفاعل فعال في المجتمع ، لا يهمها من أمر المرأة غير ستر عورتها و صيانة شرفها و الحفاظ على هويتها الدّينية .

صراع أعقبه صراع ، و انتصر الحبّ أخيراً و انفكّ الصداع . تزوج حجاج من هند رغم أنف أمه و أبيه . اقتنى لنفسه بيتا في زقاق لا يبعد عن مسكن والديه . منذ اللحظة حاول جاهداً رفقة زوجته المتسامحة دحر النزاع و استمالة والديه لعل المياه تعود إلى مجاريها ، لكنهما كانا يلاقيان منهما كل مرة من القذف و الشتم ما لا يطيقانه ، بل وعداها بالويل إن حاولا من جديد الاقتراب من باب بيتهما .

مرت سنتين كانت بالنسبة للعروسين أحلى و أجمل أيام العمر . نسِيا خلالها عطف الآباء و حنين الأمهات ، سمر الأصدقاء و دعابة الأخوات . لفّهما الوجدان و كأنهما بطلي ( طوق الحمامة ) ، أمسى الحبّ بينهما تكاملا رغم الاختلاف الفكري ، لينعما بعلاقة تبادلية ، حبّ و حنان من هذا الطرف يرتدّ مضاعفا إلى الطرف الآخر .

على أريكة خشبية نُصِبت في بهو المنزل ، جلس حجاج إلى جانب زوجته التي أمست تنتظر مولودها كل لحظة و حين . كانت تقرأ مجلة ثقافية و قد برز العبوس و الامتعاص على محياها ، بينما حجاج يراقب ذهولها في صمت ، يداعب لحيته الكثة السوداء بأطراف أصابعه ، يتململ ، يصلح من جلسته ، يسألها و عيناه تلمعان ببريق وهاج :

ـــ ماذا تقرئين ؟ أراك على غير ما يرام …

ترفع هند عينيها المرهقتين و العرق يتصبب من جبينها ، ترمي المجلة فوق الطاولة فتجيب : ـــ يراودني اللحظة ألمٌ طفيف .. ما كان علي و أنا على وشك الوضع أن أقرأ تاريخ العراق إبان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان …

يقترب منها ضاحكا :ـــ ماذا تقصدين بالألم ؟ هل تريدين وضع حملك في هذا الليل ؟ اصبري قليلا .. الصباح رباح ..

خرج حجاج باحثا عن سيارة تقل زوجته إلى المشفى ، يطوف الأزقة و الدروب ، ليل دامسٌ و شوارع خالية ، يجد نفسه فجأة قرب سيارة أبيه الراكنة في موقف السيارات .. حنين قديمٌ خيّم عليه و رشق فؤاده .. سيارة عتيقة سافرت به عبر الزمن ، عادت به إلى الوراء لتوقظ فيه ذكرى الطفولة و شوق الوالدين . بعد حيرة مزقت صبره ، قاده الشوق ليدق بابهما بعد منتصف الليل .

تلعثم في السلام و بعدها تقدم ليقبل يد أمه ، لكنها جذبت يدها لتفاجأه بلهجة جدّ قاسية :ـــ ماذا تريد ؟

ـــ بالله عليك يا أماه ، زوجتي تعاني من ألم المخاض و لم أجد سيارة تقلنا إلى المشفى .. أريد مساعدتك أرجوك ..

تضحك أمّ حجاج ملء شدقيها و تجيبه بنبرة ساخرة :

ـــ يا لك من أحمق غبيّ ، أبعد فعلتك الشنعاء و اقترانك بمتبرجة غير منقبة تريد أن تضع شرفك بين أيدي الأطباء ليعبثوا به كيف شاءوا ؟ اتق الله يا بني .. خد سيارة أبيك و عليك بالعمّة ميمونة ، أم تناسيت من أنها هي من سهرت على عملية إنجابي يوم أنجبتك .. هيا اغرب عن وجهي أيها المسحور ، و حبّذا لو حلقت تلك اللحية فهي لا تناسب ديّوثا مثلك .

وقع كلام الأم في قلب حجاج كسهم انطلق من قوس ، ساعياً بلا التواء نحو هدف مباشر. بات ملزماً على تنفيد أوامر أمه ، و خاصة بعد أن قدّمت له يد المساعدة كعربون لمصالحةٍ مرتقبة .

هو يؤمن أن أمه محقة في تصرفها ، و أن زوجته تائهة في عصرنتها . و ما كان سكوته الذي جعل منه يستكين و يخضع ، و يلين و يهجع ، إلا مسرّات شهر العسل الذي دام ربيعيْن من الزمن بعد الزواج .

و هو يدخل على هند رفقة العمّة ميمونة ، يجدانها مستلقيةً على الأريكةِ و قدِ ازداد وجعُها . تحاول العمّة مساعدتها و جسّ نبضها بطريقتها التقليدية ، لكنها ترفض ذلك ، ترمق حجاجا بنظراتٍ متسائلةٍ حائرة فتسأله : ـــ ماذا تنتظر ؟ خدني إلى المشفى …

يجيبها بنبرة باردة :

ـــ عن أيّ مشفى تتحدثين ؟ هل أنجَبتْني أمي في المشفى ليُنجَبَ طفلي هناك …؟

عمّ الضجيج و تبخّرت الابتسامة الماكرة ، تجلّى السرّ الدّفين و أمستْ ملامحه واضحةً بارزة ، كثر القيل و القال ، أوشكتْ هند أن تختنق إذ لا سبيل للخلاص من عنادِ شخص تحوّل بسرعة البرق إلى كابوس مخيف .

و هيّ تلتوي فوق الأريكة بجسدها المنهكِ صور ة حية تصارع الموت ، تبدأ الدماء بالنزيف ، تفرّ العمّة ميمونة خوفاً من مشاكل لا دخلَ لها فيها ، يجدُ حجاج نفسه متوترا أمام الأمر الواقع ، فيأخدها على وجه السرعةِ إلى المشفى ، حيث نَجَتْ بأعجوبةٍ من موتٍ محقق ، بعد أن أنجبتْ توأمين يختلفان في الجنس.

منذ تلك الليلة المشؤومة ، و على امتداد عشرين خريف ، عاشت هند رفقة فلدتا كبدها سفيانّ و غادة في صراع عنيف مع حجاج . رغم رغد العيش باتوا و كأنهم تعاقدوا مع سلطان الموت ، أو كأنهم هياكل زنزانة حُكم عليها بالمؤبد . كلما بلغ السيل الزبى ، كان سفيان يتدخل من أجل نصرة أمه أو أخته غادة ، فيجد نفسه حينها بين مطرقة و سنداب ، بين عنف يدحر به عنفَ أبيه ، و بين مبادئ تمنعه من مسّ زغبة في رأس والده مهما تمادى في تجبره و تسلطه. كعادتهم كل يوم ، يجتمعون حول طاولة إفطار واحدة نظراً لضيق المنزل . سفيان و غادة يلتهمان الطعام التهاما رغم وفرته ، يأكلان بسرعة فائقة و عيناهما لا تبرحان الصحون الممتلأة ، بينما حجاج ينظر إليهما باستغراب و هو يفرك أسنانه البيضاء بعود الأرك فيخاطبهما باسهزاء :

ـــ أمّكما أفسدتكما و لم تعلمكما حتى أدب الأكل .. كُلا ببطء .. من يراكما على هذه الحالة يظن أنكما لم تقربا الطعام منذ شهور …

تحاول غادة الإجابة فيقاطعها سفيان :

ـــ أنتَ من جعل منّا نلتهم الطعام التهاما من غير شعور حتى و إن كنّا ضيوفا في منازل الغير …

ـــ و ما دخلي أنا في كيفية تناولكما للطعام ؟

ـــ إذا أسرعنا في الأكل ، فإنّما لنغتنم الفرصة و نملأ البطون ، قبل أن تنقلب علينا الموائدُ و الصّحون .. أنسيتَ أنك قلبتَ على وجوهنا طيلة عشرين خريف ما يزيد عن ألف صِحن و تسعةٍ و تسعين مائدة؟ ما أكلنا يوماً آمنين و لا شربنا مطمئنين .. ما أحوجنا لأبٍ نلتمس فيه القلب العطوف .. الرجل الهادئ الرّزين ، إذا تكلم ينطق بالكلمة الطيبة العاقلة ، و إذا قّرر ينظر بعين الرؤية الثاقبة البعيدة . أنت بعيدٌ كل البعد عن هذه الأوصاف ، فكيف لك أن تجعل من أبنائك على الأقل يأكلون كبقية البشر …؟

يثور حجاج في وجه ابنه محاولا إيذاءه و هو يزمجر بأعلى صوته: ـــ إن كنتُ قد حطمتُ في وجوهكم تسعة و تسعون مائدة ، فاليوم سأدمّر هذه لأكمل بها تمام المائة ..

حينها يندفع كالثور ، يرفع الطاولة بصحونها و أكوابها لتصبح ما بين لحظة و أخرى في خبر كان ، ثم اتجه نحو سفيان و شدّه من عنقه بكلتا يديه قائلا :

ـــ اِسمع يا هذا ، إذهبوا كلكم إلى الجحيم ، منذ اللحظة لا أريد أن أرى أحدا منكم في بيتي .. هل سمعت ..؟

يرُدّ سفيان و هو يطلق زفرةً تليها الأنّات و الآهات ، فاقداً أمله في دحر نزوةٍ لم يعد في مقدوره كبح جماحها :

ـــ سمعتُ كلامك ، و الأفضل لك أن تسمعَ كلامي أيضا ، سنرحل الليلة ، فأمي لها وظيفة تكفيها ، و بنت خلوقة تؤنسها، و ولد بار يحميها ، فإياك ثم إياك أن تقترب منا أو تحاول البحث عنا ، لأنه حينها سأتخلى عن مبادئي و إنسانيتي و أردّ لك الصّاع صاعين .

تسلم يدينكِ ياعسل
عسى ربي يسعدكِ..

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية
ينقل قسم القصص .
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Scroll to Top